لا شكَّ أنَّ الإنسان في أي مجتمع يحتاج إلى الشعور بالأمان؛ من أجل أن يمارس حياته بشكل طبيعي، ولا تستقرُّ الحياةُ إلا إذا شعر الشخصُ بأنه آمنٌ على نفسه، لا يخاف من وقوع مكروه له ولعائلته، ولمتطلبات حياته المعيشية والمالية.
وهناك عدَّةُ أنواع للأمن، ومن أهمِّها "الأمن الفكري"، حيث يُعَدُّ الفكرُ البشريُّ ركيزةً هامَّةً وأساسيةً في حياة الشعوب على مرِّ العصور، ومقياساً لتقدُّم الأمم وحضارتها، وتحتلُّ قضية الأمن الفكري مكانةً مهمةً وعظيمةً في أولويات المجتمع، الذي تتكاتف وتتآزر جهودُ أجهزته الحكومية والمجتمعية لتحقيقه؛ تجنُّباً لتشتُّتِ الشعور بالانتماء للأوطان،أو تغلغل ظاهرة العولمة بكافة أشكالها وأبعادها ، وبذلك تكون الحاجةُ ماسةً لتحقيق مفهوم "الأمن الفكري" الذي يؤدي إلى الاستقرار الاجتماعي.
ومن خلال متابعتي لما كتب عن هذا الموضوع الهام مع شكري وتقديري لكل مَنْ ساهم في نشر الوعي عن هذا المفهوم ولمن اقتبسْتُ منه دعوني أبدأ بتعريف مفهوم "الأمن الفكري":
إنَّ مصطلح "الأمن الفكري" مصطلحٌ حديثُ العهد، ولذلك تباينت الآراءُ حولَ هذا المفهوم مع اتفاق كلِّ التعريفات على نقاطٍ أساسية.
عرَّفه البعضُ بأنه: عيشُ الناسِ في أوطانهم ومجتمعاتهم آمنين على مكوِّنات أصالتهم ومنظومتهم الفكرية وثقافتهم النوعية.
ورأى البعضُ أنَّه: سلامةُ فكرِ الإنسان وعقله وطريقة فهمه وحفظُها من الانحراف عن الوسطية والاعتدال فيما يخصُّ الجوانب الثقافية والاجتماعية والعقائدية والدينية، وحتى السياسية.
بحيث لا تقوده نظرتُهُ للأحداث وطريقةُ تفكيره إلى الغلوّ والتطرُّف أو الإلحاد، وأن نطمئنَّ من ابتعاده عن الانحراف الذي يهدِّدُ الأمن القومي، أو مقوماته الفكرية أو العقائدية أو الثقافية أو الأخلاقية.
ويرى البعضُ الآخرُ أنَّه: إحساسُ المجتمع بأنَّ منظومته الفكرية ونظامه الأخلاقي الذي يرتّب العلاقات بين أفراده داخلَ المجتمع ليسا في موضع تهديدٍ من فكرٍ متطرفٍ وافدٍ.
وعلى كُلٍّ تكادُ تُجْمِعُ كلُّ هذه التعريفات على الحفاظ على هُوِيَّة الأمة وثقافتها، وحماية المجتمع من الانحراف والانحلال، اللذين يقودان إلى ضعفه واختراقه ودخول الخلل عليه.
ويقابِلُ "الأمنَ الفكريَّ" مفهومُ "العولمة الفكرية"،الذي يعني: الهيمنة الثقافية والفكرية على المجتمعات و الشعوب.
وبعبارةٍ أخرى: محاولةُ سيطرة الأمم القوية على الأمم الضعيفة، وهذا من نتائج ظاهرة العولمة؛ ولستُ هنا بصدد الحديث عن التأثير الفكري- لهذه الظاهرة- وأدواته وأسبابه ونجاحه في مجتمعاتنا نتيجة البنية الهَشَّة لهذه المجتمعات، ولعلّي قريباً أكتب مقالاً عنه.
ولكنَّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تعني المحافظةُ على "الأمن الفكري" أن تغلق مجتمعاتنا نوافذها تجاه الشعوب الأخرى؟ أو أن تنبذ أفكار الأمم الأخرى وحضارتها والتكنولوجيا التي وصلت إليها؟ وأن نحارب ثقافتها ومعرفتها؟
والجوابُ قطعاً: لا، وإنما نعني استقبال كلِّ هذه الحضارات ومقوِّماتها ، ونأخذ منها ما يتوافق مع قيمنا ومبادئنا وثقافتنا وأخلاقنا، و ونترك ما يتعارض مع ذلك.
فقد أدَّت ثورةُ المعلومات إلى إنتاج وسائل حديثة ومتطورة في التواصل الاجتماعي، عَمِلَتْ على تغيير أنماط حياة الأفراد اليومية، وعلاقاتهم الاجتماعية، وطرق تفاعلهم التقليدية المألوفة، ويأتي الأنترنت في مقدمة هذه الإنجازات دون منافس؛ إذْ إنَّه أحدَثَ تغييراتٍ جذريةً مسَّت حياةَ الناس، وطالت جوانب حياتهم الاجتماعية والفكرية والثقافية والدينية وحتى السياسية، حتى إنَّ البعض شبَّه الثورة التي أحدثها الأنترنت بثورة اكتشاف الحروف الهجائية في مسيرة المجتمع الإنساني.
ومع أنه لا يمكن إنكار فوائد النظام المعلوماتي وإسهامه الفاعل في البنية الثقافية عامةً إلّا أنَّ عدمَ التحكُّم فيه وإمكانية التخفِّي وعدم تحديد المصدر الالكتروني ساعد على أن يكون هذا النظام من مصادر تهديد "الأمن الفكري" الذي يُعَدُّ في ذاته نِتاجاً لأزمةٍ فكريةٍ أوجدها النظام المعلوماتي من خلال التقنية الحديثة.
و على الرغم من الآثار السلبية للعولمة إلّا أن التعاون بين الأمم والحضارات لا يُعد خرقاً للأمن الفكري؛ وإنما هو نقطةٌ إيجابيةٌ على الصعيد العلمي والثقافي والتربوي والإداري، وتلقي الحكمة والاستفادة من الحقّ الموجود عند الغير ضَالَّةُ المؤمن، فحيثُ وجدها أَخَذَ بها، ولو من غير أهلها، وما أجدَرَ الشبابَ اليوم أن ينشدوا ضالتهم ويأخذوها من بين آلاف الأفكار والمقالات والمواقع، فيأخذوا ما يناسب قيمهم ومبادئهم .
والتسامُحُ هو العنوانُ الحضاريُّ لأي علاقة قائمة بين المجتمعات البشرية، وإليه دَعَتْ كلُّ الشرائع، وكذا الحوار الإيجابي، والذي بدونه لا نستطيع الوصول إلى تلاقح الأفكار والحقيقة المطلقة، وكذا دعوةُ الغير إلى القيم والمبادئ التي هي عنوانٌ أخلاقيٌّ يجب أن تقوم عليه كلُّ الحضارات الإنسانية، وأما المعرفةُ المشتركة بين البشر فقد أصبحت اليوم متاحةً للجميع، وتلقي المعرفة من الغير بما لا يوقع الخلل والضرر كانَ السببَ في هذا التطوُّر الهائل الذي تَنْعُمُ البشريةُ اليومَ بكثيرٍ من روافده الإيجابية.
فكلُّ ما سبق لا يُعَدُّ خرقاً للأمن الفكري، بل يمكن أن يستفاد منه لتوسيع المدارك والأفكار والعقول، ويمكنها أن تتغذَّى عليه لتنتج أمةً واعيةً قويةً، لا تنبذ الغير بل تسخِّرُ إمكانات المعرفة التي استقتها من الأمم الأخرى لتنهض بواقع الأمة.
ولكنَّ الخطر على الأمن الفكري يأتي من تبنّي أفكار منحرفة أو متطرفة أو مشوشة يطَّلع عليها الشبابُ اليوم ويتبنَّونَها، وكلُّ ذلك صادرٌ عن مواقع مجهولة المصدر، ، مع ضعف منظومة القيم والمبادئ والأخلاق التي تشكِّل نقطةَ استهدافٍ سهلٍ لمعظم الشباب.
وتنبُعُ أهميةُ "الأمن الفكري" للمجتمع من كونه المدخلَ الحقيقيَّ للإبداع والتطوُّر والنموّ لحضارة المجتمع وثقافته، وأنَّ في وجوده حمايةً للمجتمع عامةً والشبابِ خاصةً ووقايةً لهم من الأفكار المتطرفة، وفي غياب "الأمن الفكري" يختلُّ الأمنُ في كلّ النواحي الأخرى، وتصبحُ منافذُ التأثير الفكري أوسع ضرراً، حيث تضعُفُ حمايةُ العقول من الاختراق، وتنتشر الجرائم، ويظهر التطرُّف بكلِّ أشكاله.
ولا يخفى أنَّ مصادر تهديد "الأمن الفكري" متعددة، وتأتي أحياناً من جماعات التطرف والتشدد الفكري ومثيري الفتن ودعاة الفرقة.
وأهدافُ الأمن الفكري تتجلَّى في:
- غرس القيم والمبادئ الإنسانية التي تعزِّزُ دورَ الإيمان بالله عز وجل وما جاءت به الشرائع الدينية، وتغرس روح الانتماء للأمة والوطن.
- ترسيخ مفهوم الفكر الوسطيّ المعتدل الذي تميَّز به الدِّين الحنيف.
- تحصين أفكار الناشئة من التيارات الفكرية الضارّة .
- تربيةُ الفرد على التفكير الصحيح القادر على تمييز الغَثِّ من السَّمِين، وعلى تنمية روح الإبداع لديه بحيث يكونُ سبباً في نهضة الأمة.
- إشاعة روح المحبة والتعاون بين الإنسانية جمعاء، والبعد عن الحقد والكراهية.
- الإحساسُ بالمسؤولية تجاه الأمة والمجتمع، بما يكفل تطوُّر المجتمع وتقدّمه نحو الأفضل.
وتجدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ تعزيز "الأمن الفكري" في المجتمع ليس مسؤوليةَ جهةٍ واحدة فقط، بل هو مسؤوليةُ المؤسسات الاجتماعية، التعليمية منها والثقافية والدينية، ومسؤولية السلطات المعنية في كل بلد، وإنما قدَّمتُ المؤسسات الاجتماعية على مؤسسات الدولة؛ لأنَّ تأثيرها أكبر، والدورُ الذي تقوم به فعّال وحيوي في المساهمة في تحقيق أعلى مستويات "الأمن الفكري".
وأشير هنا إلى دور الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد بل دور العبادة كافةً، ويضاف إليها وسائل الإعلام بكل أنواعها ومنصَّات التواصل، كلُّ ذلك مسؤولٌ عن تعزيز الأمن الفكري، وبعده يأتي دورُ السلطات المعنية.
فالأسرةُ هي المدرسةُ الأولى والحصنُ التربوي المنيع الذي يتمُّ فيه الإعدادُ الأوليُّ للفكر السليم القائم على التربية السلوكية، والذي يشكّل الـمَصْل المقاوم للتأثير الفكري ، ولا أنكرُ هنا أنَّ دور الأسرة بدأ بالتراجع أمامَ الانفتاح العالمي الكبير، ولكن يبقى وازعُ التربية والسلوك الذي نشأ عليه الشخصُ كامناً في قلبه وفكره، ولا بُدَّ أن يستيقظ يوماً ليردَّه إلى جادة الصواب.
وهنا يأتي دورُ الأب والأم في مواكبة المتغيّرات الهائلة العالمية وغرس القيم والتربية الفكرية والتثقيف الموجَّه.
وأما المسجدُ فيقعُ على عاتق أهل الشريعة المتنوّرين مسؤوليةٌ كبيرةٌ في ترسيخ وسطية الإسلام واعتدال مبادئه، وبيان موقف الدِّين من الإرهاب والتطرف والتخريب، وبيان رأي التشريع من القضايا المعاصرة التي تهمُّ المجتمع، والتعريف بالأفكار الهدّامة والتحذير من الوقوع فيها، وبيان أنَّ الدِّين هو دين التفكير لا التكفير، وعلى عاتقهم أيضاً تقع مسؤولية تطوير الخطاب الديني ليواكب هذا الفضاء الواسع من كمّ المعلومات ونوعها، وكتبْتُ سابقاً مقالةً عن تجديد الخطاب الديني الذي أصبح ضرورةً ملحةً اليوم يساهم إسهاماً كبيراً في تعزيز "الأمن الفكري".
ودورُ المؤسسات التعليمية من المدارس والجامعات دورٌ محوريٌّ، فمهمَّتُها تنميةُ الأفكار والعقول وحمايتُها، والعمل على نَشْر قيم الانتماء وبناء الأخلاق وربط مناهج التعليم بواقع الحياة ومشكلات المجتمع الفكرية المعاصرة.
وفي نهاية المقال: أدعو الشباب لعدم إهدار وقتهم وإضاعة طاقاتهم بما يؤثِّر على ذكائهم وإنتاجهم، والوعي التامّ لتجنيد الجماعات الإرهابية وإقناعهم بالفكر التكفيري، والانتباه إلى تيارات الإلحاد التي نشطَتْ في الآونة الأخيرة والحرص على منظومة القيم الأخلاقية وقيم العمل وقيم الأسرة والانتماء للوطن.