الرموز في الذهن العربي

كيف تعرقُل جهوَد تحقيق نقلة نوعية شاملة في المنطقة العربية؟

تبحث هذه الورقة في دلالة توظيف الرموز في مفاصل الحياة المختلفة ولاسيما السياسية منها، والكيفية التي ترتبط بها في الأفراد والجماعات، وتؤثر في سلوكهم وتصوراتهم وانطباعاتهم، لتشكل الرموز في نهاية الأمر جزءاً لا يتجزأ من الثقافة السياسية.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ١١‏/٠١‏/٢٠٢٢

مقدمة:

يمتاز الإنسان عن غيره من الكائنات والمخلوقات بسمات كثيرة ومتنوعة، فهو كائن مدني واجتماعي وعاطفي وثقافي.. وغيرها. إلا أن خصوصيته وفرادته والتي لا يتشارك فيها مع أحد يمنحه إياها "العقل" طبعاً، فهو وحده قادر على "عَقْلِ" الأشياء أي "فَهِمَهُا، وإدْرَاكهُا عَلَى حَقِيقَتِها"، وعلى بناء عوالم كاملة من خلال الرموز واللغة وشبكات المعاني. فالإنسان كائن "رمزيٌّ" بقدر ما هو عقلي، يعيش بالرموز ويوظفها في مفاصل الحياة المختلفة، ويرسي عبرها منظومة علاقاته مع الآخرين.

لا تأتي الرموز من فراغ، بل تتعلق بسيكولوجيا الأفراد وسلوكهم وبمنظومة تصوراتهم وانطباعاتهم، وكذلك بسياقات جماعة من الجماعات، أو دولة من الدول، أو أمة من الأمم. وحيث أنه لا يمكن إدراك دلالة الأشياء والعلاقات إلاّ من خلال استعمالاتها، وممّا تتضمّنه من معنى في حياة الأفراد وممّا تتخذه من دلالة في متخيّلهم الجمعي... كذلك لا تنفصل الرموز عن مجموعات أخرى من العناصر، فإذا ارتبطت بالقيم والعادات والتقاليد شكلت الموروث الشعبي، وإذا ارتبطت بالشعائر والعقائد شكلت الطقوس الدينية، وإذا ارتبطت بالتاريخ والعمل السياسي للدولة ورجالاتها وأهم أحداثها شكلت ثقافتها السياسية.

أما الثقافة السياسية فهي مجموعة من الآراء المشتركة والأحكام المعيارية التي يتبناها السكان فيما يتعلق بنظامهم السياسي ككل ومدى إيمانهم بشرعيته. يعرّفها عالم السياسة الأمريكي "لوسيان باي" على أنها «مزيج من القيم الأساسية والمشاعر والمعرفة التي تكمن وراء العملية السياسية». وعليه فإن دور الرمز في تشكيل الثقافة السياسية ينتقل به من حدوده الضيقة كنظام سيميائي/إشاراتي مستقل، ليتم توظيفه في المجال العام كظاهرة اجتماعية سياسية أوسع وأكثر تأثيراً.

إذن، تلعب الرموز دوراً كبيراً في تشكيل المجتمعات، وفي صياغة النموذج السياسي الذي يحكمها، كما يمتد دور الرموز في حالات كثيرة ليشمل التأثير في منظومة العلاقات التي تربط بين المجتمعات، وفي كيفية تعاطي دولة مع محيطها القريب والأبعد.. ولا يعني هذا بأي حال من الأحوال أن دور الرموز إيجابي بالمطلق، خاصة عندما تكون هذه الرموز قديمة وتقليدية وناتجة عن سياقات مجتمعية وثقافية ما قبل حداثية، أو عندما يكون "العقل" الذي ينتجها مغلولاً بقيود الماضي، أو مؤطراً بسياسات رجعية أهدافها محدودة بمصالح فئات معينة تحاول الحفاظ على وضع راهن ما، في زمن باتت فيه المراوحة في المكان تعني تراجعاً وتأخراً وابتعاداً كبيراً عن ركب الحضارة المتسارع.

لتوضيح هذه الأفكار، والتوسع بها، وتدعيمها بالتعريفات والأمثلة والإسقاطات المرتبطة مباشرة بالواقع العربي، تأتي هذه الورقة البحثية مقسمة على خمسة عناوين رئيسة، هي: الرمز والرمز السياسي؛ الثقافة السياسية العربية وأزمة العقل العربي؛ حرب الرموز في الصراع العربي الإسرائيلي؛ النقلة النوعية العربية المنشودة؛ وأخيراً: بين "وهم النصر" وعقلانية السلام؟

 أولاً: الرمز والرمز السياسي.

لا بد بداية من المرور على تعريف "الرمز" لغةً، واللغة بحد ذاتها كيان رمزي وأداة لنقل الرموز من جيل لآخر. والرمز بحسب ابن منظور في "لسان العرب" هو «تصويت خفي باللسان كالهَمْس، ويكون تحريكَ الشفتين بكلام غير مفهوم باللفظ من غير إِبانة بصوت إِنما هو إِشارة بالشفتين، وقيل الرَّمْزُ إِشارة وإِيماء بالعينين والحاجبين والشفتين والفم. والرَّمْزُ في اللغة كل ما أَشرت إِليه مما يُبانُ بلفظ بأَي شيءٍ أَشرت إِليه بيد أَو بعين. ورَمَزَ يَرْمُزُ ويَرْمِزُ رَمْزاً». أما المعجم الفلسفي لمجمع اللغة العربيَّة، فيطور هذا المفهوم قليلاً فيعرّف الرمز بكونه: «علامة يُتَّفق عليها للدلالة على شيء أو فكرة ما، ومنه الرموز العدديَّة والرموز الجبريَّة، ويقابل الحقيقة والواقع».

ورغم أن معظم المعاجم العربية قد تضمنت تعريفات لـ "الرمز" إلا أنها كلها تتشابه في المضمون، كما تتشابه في الإجحاف بحق هذا المفهوم العميق والمعقد واختزاله فقط إلى ما يشبه الإشارة أو العلامة. في المقابل يعرف في الغرب بأسلوب أدق، ومن أفضل التعريفات وأبسطها وأدقها ذاك الذي تقدمه "إنسايكلوبيديا بريتانيكا" والتي تعرف "الرمز" بداية على أنه «عنصر اتصال، يهدف إلى تمثيل أو التعبير ببساطة عن شخص أو شيء أو مجموعة أو فكرة، أو أي تركيب معقد مما سبق».  إذن، وفي سياقات فلسفية متعددة وخاصة في السيميائية، وهي أحد فروع "الميتالوجيك أو ما بعد المنطق"، يتم التمييز الدقيق للغاية بين الرمز والعلامة، فالأول يتجاوز الثانية بعيداً ليشكل ظاهرة سوسيو–ثقافية عالمية، بأبعاد سيكولوجية وفكرية فردية وجماعية، تختزن داخلها إمكانات التأثير ودوافع السلوك ومنظومات القيم.

وللرمز أشكال مختلفة فقد يكون حرفاً (كما هو الحال في K للدلالة على البوتاسيوم) أو شكلاً (كنجمة أو الصليب أو الهلال في اليهودية والمسيحية والإسلام)، أو كرمز "اللانهاية" الرياضي أو رمز الدولار $، لمن لا يفضلون الأمثلة الدينية، وأخيراً قد يكون الرمز "شخصاً" حقيقياً أو مفترضاً، وأحد أبرز الأمثلة هو "العم سام" الذي يدرك الجميع أنه رمز سياسي للدلالة على الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى قوتها وجبروتها.

in-3.jالرموز-بالفكر-العربيpg.jpg

ومن أكثر الرموز السياسية شيوعاً في العالم يأتي العلم، ونشيد السلام الوطني، وتواريخ الأعياد والاحتفالات الوطنية. إذ تلعب هذه الرموز –وغيرها– أدواراً مهمة في تكوين الأمم والهويات الوطنية، لأنها تعبير مكثف ومشترك عن القومية من جهة، وجزء لا يتجزأ من صنع الهوية والحفاظ عليها وتطويرها.

وتعبر مجموعة الرموز السياسية عن جوانب ومعان أعمق للأمة، بالإضافة إلى عملها كقوى تكاملية –وفي بعض الأحيان تقسيمية– من ناحية تأثيرها على المجتمعات التي تمثلها، وقدرتها على رفع الوعي الجمعي من خلال الإجابة على أسئلة من قبيل: "من نحن؟" و "من أين نحن؟".

لكن تأثير الرمز في السياسة لا يقف عند هذه الحدود رغم أهميتها، بل يمتد إلى ما هو أبعد وأعقد وأخطر، ويعد "موراي إيدلمان" أبرز من خاض في الكشف عن تأثير الرمز في المجال السياسي، ونجح أكثر من أي منظّر آخر في إظهار الأهمية الواسعة والعميقة للرموز في السياسة، ويعد كتابه المبتكر والكلاسيكي "الاستخدامات الرمزية للسياسة" (1964) حجر أساس السياسة الرمزية، ولا يزال لهذا الكتاب تأثيره الواسع النطاق على البحث العلمي.

استكشف إيدلمان في كتابه هذا –وفي عدة كتب تلته– أساليب استخدام الأساطير والطقوس والأشكال الرمزية الأخرى للتواصل في تشكيل الرأي العام والسياسة. يميز إيدلمان بين وجهة النظر التقليدية للسياسة وبين "واقع السياسة"، تركز وجهة النظر التقليدية للسياسة على كيفية حصول الناس على ما يريدون من خلال الحكومة. أما في "واقع السياسة"،  فيتكشف لديه دور الرمز وفاعليته، إذ تُستخدم الرمزية السياسية للتأثير على مواطني الدولة من خلال استرضائهم أو إجبارهم على التصرف.

ووفقاً لإيدلمان، يتم إخفاء الواقع السياسي عن الجمهور من خلال توليد رموز جوفاء من قبل النخب السياسية. ولهذ الرأي أدلة عربية كثيرة، سيتم عرض بعضها تالياً، بعد المرور على الحلقة التي تنقل الرمز من الحيز الاجتماعي إلى المجتمعي السياسي، وهي الثقافة السياسية.

ثانياً: الثقافة السياسية العربية وأزمة العقل العربي.

حتى في الدكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية، تعد الثقافة السياسية محركاً رئيساً من محركات السلوك السياسي، لكن في العالم العربي، تعاني الثقافة السياسية من أزمة عضوية لا تنفك بطبيعة الحال عن تلك التي يعانيها العقل العربي بالعموم، والتي ناقشها مفكرون عرب في السابق ومن أبرزهم محمد عابد الجابري ومحمد أركون وغيرهما.

وجوهر هذه الأزمة السياسية هو أن الأفكار والمقولات السياسية المعمول بها عربياً (الثقافة السياسية) والنظام المعرفي والفكري الذي أنتج وينتج هذه الأفكار (العقل العربي) كلاهما يعاني من قيود "الديني" و"التراثي" التقليدي والبالي والرجعي، التي تضع العصي في عجلات أي محاولات للتطوير والتحديث، ويعاني أيضاً من قيادات سياسية ونخب ثقافية لا تفعل شيئاً في محاولة لكسر هذه القيود، بل على العكس كثيراً ما تعمد إلى تغذيتها وتضييقها، لتبقي الشعوب غارقة في الجهل والتخلف، فتعيش حياتها ضمن منظومة أفكار قديمة، وتستخدم تقنيات وأدوات قديمة، وتقاتل وتضحي في حروب وصراعات قديمة..

وما يُفاقم المشكلة أكثر، أن هذه الثقافة السياسية المأزومة تعيد إنتاج أزمتها عبر صناعة المزيد من الرموز، أو تدعيم الرجعي منها، لتعيد بدورها إنتاج ثقافة سياسية ما قبل حداثية لا تزيد من أوضاع الشعوب العربية إلا سوءاً، ومن السلطات الفاسدة القائمة إلا استبداداً. ويمكن لمثال الصراع العربي الإسرائيلي أن يوضح كثيراً مما سبق، خاصة وأن معظم الرموز المستخدمة في الخطاب "المقاوم" المرتبط بهذا الصراع، ليست رموزاً سياسية في الأصل، بل تم سحبها في أغلب الاحيان من الموروث الديني وتوظيفها في الصراع السياسي.

ثالثاً: الرمز وسياسات العرب الداخلية.

تحمل لفظة "العرب" بحد ذاتها رمزية مكثفة ومثقلة بعناصر شتى، يمتزج فيها الديني بالتاريخي بالشعبي وصولاً إلى السياسي، ومنذ أن خرج العرب من عباءة السلطة العثمانية سيطرت الدلالات السياسية لرمز العروبة على غيرها من الدلالات، وجرى توظيفها في بعدين اثنين رئيسين، الأول: هو التحرر من الاستعمار الغربي الذي خلف العثمانيين في السيطرة على بعض المجتمعات العربية، أما الثاني: فهو العمل على إنشاء كيان سياسي وطني واحد اسمه الدولة العربية، ومع أن التوظيف الأول (التحرر من الاستعمار) نجح في تحقيق مراده على فترات متباعدة وبشكل نسبي، إلا أن التوظيف الثاني (تأسيس دولة عربية واحدة) فشل بالمطلق بعدما ثبتت لا واقعيته.

أدى استقلال العرب في دول متعددة إلى صعود تأثير طفرة جديدة من الرموز السياسية التي لم تكن حاضرة في الذهنية العربية من قبل، كأسماء الدول الجديدة وقياداتها ضد المحتل، وأعلامها وأناشيدها الوطنية، ولقد ساهمت هذه الرموز في إحلال وعي وطني جديد مغاير تماماً للوعي السابق الذي ارتكز على رمزية الإسلام والعروبة، لتتشكل على إثره هويات وطنية متعددة، بُنيت عليها مواقف متباينة من مفهوم العروبة كرمز سياسي.

ورغم استقلال الهويات السياسية القطرية للدول العربية، واستقرارها النسبي منذ منتصف القرن الماضي، أو بعده بقليل، وحتى اليوم، ما يزال الوعي السياسي العربي مفارقاً لواقعه الجغرافي والديموغرافي على الأرض، وعاجزاً عن صياغة تشكيل سياسي فوق قطري، أو عابر له، بحيث يكون قادراً على احتواء الكيانات السياسية الجديدة ضمن منظومة عربية واحدة. ولقد مثّل هذا العجز ما يمكن وصفه بالجرح النرجسي عند كثيرين ممن يصرون على أن كل وجود سياسي قطري هو مؤقت وطارئ أمام حتمية الدولة العربية الواحدة.

أثّر الحضور الرمزي للهوية العربية الشاملة، والذي لم يقابله الحضور الواقعي على الأرض، إلى توسيع الصراع الأيديولوجي بين العرب أنفسهم، سواء داخل القطر الواحد، أو بين الأقطار المتعددة، خاصة في الدول التي تأسست على أعقاب خروج المستعمر الغربي منها، والتي استقرت فيها أنظمة حكم جمهورية خلفت الأنظمة السياسية التي أقامتها الدول المستعمرة آنذاك. أما النتائج التي ترتبت على هذا الصراع فيمكن اختصارها بحالة التشويش والقلق التي جعلت أغلب الدول العربية تفتقر إلى صياغة هوية مستقلة ومستقرة لوجودها، فكانت إما باحثة عن التوسع والانتشار، أو منكفئة على ذاتها تخشى الذوبان في غيرها، ومن ثم الاضمحلال.

مقابل الصراع الرمزي بين الهوية القطرية والهوية العربية الشمولية، وُلد صراع آخر بين الاتجاه العروبي والاتجاه الإسلاموي الجديد، والذي قام بالدرجة الأولى على سلسلة الهزائم والانكسارات التي منيت بها القومية العربية في صراعها مع القومية اليهودية ودولتها التي تشكلت في العمق العربي مستفيدة من الدعم الغربي الضامن لاستمرارها وتفوقها. ورغم اتفاق الاتجاهين القومي والإسلاموي على تسمية عدوهم المشترك، إلا أن حرب الوجود التي دارت بينهما كانت أكبر بكثير من الحرب التي دخلها العرب مع عدوهم المتفق عليه!

رابعاً: حرب الرموز في الصراع العربي الإسرائيلي.

تُوصف بعض أنواع الصراع، ومن ضمنها الصراع العربي الإسرائيلي، بأنها مجرد صراع رمزي، فيظن كثيرون أن هذا التوصيف يعني التقليل من خطورته ومن تهديده، لكن العكس هو الصحيح تماماً، إذ تحتل الرموز مكانة مركزية وثقلاً رئيساً في معظم النزاعات في العالم، وبالتالي لا يمكن فصلها أبداً عن الجوانب المادية للصراع، فكل صراع يحدث إنما يحدث في بيئة رمزية معينة.

يعتمد الخطاب السياسي المحيط بالصراع العربي الإسرائيلي على مجموعة متنوعة من الأدوات الرمزية للتعبير عن أفكار كل طرف. كما أن هذه الأفكار المنظمة والمجمعة بطرق مختلفة، والمعبر عنها بجملة رموز، تشكل الثقافة السياسية للصراع، وهذه الثقافة ليست عابرة أو جزئية أو ثانوية، بل غالباً ما تكون رئيسية ومتجذرة في الزمان والمكان. ولمن يظن أن المصادر الأصلية للثقافة السياسية تختلف بين الشعوب، أو أن توظيف الرموز في خطاب العداء المتبادل بين الطرفين يتم بطرق متباينة، فمن المؤسف تخييب أمله، فالفرق بين أسلوبي توظيف الرموز في الصراع العربي الإسرائيلي لا يكاد يذكر، ذلك لأن التشابه بين الشعبين كبير، حتى لو رفض كثيرون الاعتراف بذلك، ولهذا السبب تتشابه وسائل التأثير السياسي التي تستخدم مع أي من الطرفين بهدف حشده وتأليبه ضد الآخر.

يستخدم العرب رمزية شهر رمضان المبارك لإضفاء شيء من القدسية على حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، فيسميها الإسرائيليون لذات الغرض "حرب يوم الغفران". وحين تطلق حماس على عملياتها العسكرية، أسماء مستوحاة من القرآن الكريم بناء على أيديولوجيتها الإسلاموية القائمة على إلحاق المسيس بالمقدس (مثل "حرب الفرقان"، و"حجارة السجيل")، يقوم الإسرائيليون باستخدام الأسلوب ذاته عندما يسمون عملياتهم "عمود السحاب" مثلاً، وهو العمود الذي أرسله الرب بحسب "التوراة" ليهدي بني إسرائيل سبيل الهروب من أرض مصر.. وهكذا.

in-1.jpgالرموز-بالفكر-العربي.jpg

لذلك فإن المستمع لخطاب أو لغة الصراع العربي الإسرائيلي سيجد لكل شيء اسمين مليئين بالرموز والرموز المضادة، فالصهيونية "حركة التحرر الوطني للشعب اليهودي" مقابل الصهيونية الحركة العنصرية كما يراها العرب؛ الأراضي الخاضعة للإدارة الإسرائيلية مقابل الأراضي المحتلة، الضفة الغربية مقابل يهودا والسامرة... وهكذا تمتد السلسلة دواليك، ولكل مسمى رمزيته التي قد تعود لمئات وآلاف السنين، ولكنها مازالت تطيل أمد الخلاف والاقتتال والخسائر من الطرفين!

خامسا: النقلة النوعية العربية المنشودة.

إذن ورغم تشابه خطاب العداء بين طرفي الصراع، إلا أن المشكلة الأكبر مازالت لدى الطرف العربي، فرغم تقليدية كثير من الرموز التي يستخدمها الإسرائيليون إلا أنهم استطاعوا توظيفها أيضاً في الجمع والحشد حول الانتماء القومي والهوية الجامعة لأفراد من شتى أصقاع الأرض. والهوية القومية ضرورية في الإصلاح والبناء والتطوير.. لأن الانتماء يدفع المواطنين إلى تحمل الكلف الباهظة. المشكلة الأكبر أنه وفي البلدان العربية غالباً ما يتم تسخير هذا الانتماء، وهذا الاستعداد لقبول التكاليف، لخدمة مصالح شخصية وليس لخدمة المجتمعات والدول وبالتالي الشعوب.

من جهة أخرى، تحاول بعض النخب السياسية والثقافية العربية، خاصة تلك التي تزعم أنها حامل لواء القضية الفلسطينية الأول، ومن خلال تقديس بعض الرموز السياسية (مثل عبد الناصر أو عرفات)، أو تبني رموز دينية وإسباغها على السياسي كـ"الجهاد" المتواصل مثلاً، أن تظهر أن "الاستبداد" هو قدر العرب، ومثله وسمهم بالعنف والإرهاب، حتى يتم التحرير وينتهي الوضع الراهن الذي نعيشه، وبالمقابل لا يُبذل أي جهد لإنهاء هذه الحالة، بل على العكس، كلما مالت الأمور باتجاه الحلحلة، تتم إثارة معركة هنا، واشتباك هنا –سياسي كان أم عسكري– بهدف إبقاء راهن الأمور على حاله، بما يضمن بقاء هذه القوى وهذه "النخب" متربعة في مناصبها وعلى حساب مقدرات الشعوب ومستقبلها، فأي سلام هذا الذي يريده الشعب العربي، وأي تنمية وتحديث يطمح إليهما؟ هذا لا يتناسب أبداً مع روح "المقاومة والممانعة" وبالتالي فهو مرفوض بالمطلق!!

هيمنة هذا النمط من الرموز والتقاليد القديمة قادر على عرقلة أي تغيير جذري أو نقلة نوعية سياسية كانت أم اقتصادية أم اجتماعية.. لقد تمت دراسة حالات مشابهة للحالة العربية، أبرزها تلك التي سادت في الدول التي نالت استقلالها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وللباحثة "أستريد سام" دراسة عنوانها "الثقافة السياسية والرموز الوطنية: تأثيرها على عملية بناء الأمة البيلاروسية"، وتوصلت إلى أن الموروث السوفيتي القديم والمهيمن، أدى في حالات كثيرة إلى إعاقة كثير من التحديثات الضرورية في تلك الدولة، مع العلم بأنها لم تكن في حالة "صراع" تشبه تلك التي يعيشها العرب مع الإسرائيليين.

أخيراً: بين "وهم النصر " وعقلانية السلام؟

لم يعد من الممكن اعتبار الجوانب الرمزية للسياسة على أنها ظاهرة ثانوية أو ذات اهتمام هامشي. لقد كانت الرمزية في قلب العملية السياسية العربية، لأنه وكما أشرنا سابقاً: يصنع العقل البشري الرموز، ثم تعود هذه الرموز لتصنعه من جديد، وتسهم بشكل كبير في تشكيل الواقع، على مختلف الصعد الثقافي منها والاجتماعي والسياسي. حتى الحروب، العرقية منها والأهلية وغيرها، هي "سياسة رمزية" كما عبر عنها البروفسور الأمريكي ستيوارت ج. كوفمان، ولا يخرج الصراع العربي الإسرائيلي عن هذه الرؤيا، حيث قال: «إن وسائل حشد المؤيدين هي سياسة رمزية: يقوم القادة بتأطير القضايا المطروحة لمناشدة النزعات الشعبية وإثارة المشاعر لدعم الحرب، وينشرون الموارد التنظيمية لتحويل المؤيدين إلى جيش (وسيلة القتال) وتحريكها»، قد يتذرع القادة بأن مشاعر الشعب تميل نحو الحرب، لكنهم لا يذكرون أن هذه الميول هي نتاج التنشئة الاجتماعية، والسرديات والرموز الجماعية. ومن يتعرضون لضخ مستمر يشيطن مجموعة أخرى سيميلون بطبيعة الحال إلى تبني نزعات معادية تجاه تلك المجموعة، وتكرار الحديث عن "النصر المؤزر" سيخلق وهماً كبيراً بأن هكذا "نصر" مازال ممكناً، فتضيع الجهود في البحث عنه، وتضيع معها فرص السلام الواقعية والحقيقية والممكنة فعلاً.

لذا، ولأن القيادات المناهضة للسلام لن تغير من أساليبها في المدى المنظور، يجب على الشعوب العربية ألا تنتظر، وعليها أن تسقط عن نفسها قيد الرموز، مهما كبر مستوى تأثيرها، فالرموز لا تحتاج إلى أن تكون دقيقة لتكون مؤثرة، إذ غالباً ما تحكي قصة حول ما يريد القادة من الشعب تصديقه بدلاً مما يمكن تحقيقه فعلاُ على أرض الواقع. على العرب أن يعوا أن الرموز ليست قوية في حد ذاتها، بل تكتسب قوتها منهم ومن المعنى الذي يمنحونها إياه. وأن ما يقدم لهم من معان للرموز ويُفرض عليهم باعتباره شرعياً ليس إلا شكلاً من أشكال العنف الرمزي، كما يسميه بورديو، وعليهم ألا ينقلوه بالتالي ليصير عنفاً بالمعنى العام، لأنهم بذلك يحافظون على وضع راهن هم أكبر المتضررين منه وعلى الصعد كافة..

 

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات