الديمقراطية في مواجهة الديمقراطية الرقمية
تناولت العديد من الأدبيات مفهوم الديمقراطية الرقمية كوسيلة يتم من خلالها دمج الممارسات الديمقراطية مع أدوات التكنولوجيا المتطورة؛ في وقت تواجه الممارسات التقليدية تحديات عدّة. تستعرض هذه المادة مفهوم الديمقراطية الرقمية وتطبيقاته والخلل الذي يعتري التوفيق بين هذا المفهوم ومفهوم الأمننة الرقمية.
الكاتب حازم سالم الضمور
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٠٩/٠٨/٢٠٢١
يفرض الواقع على العالم الغربي تحديات كبيرة اقتصادية واجتماعية وسياسية، تنبع في معظمها من التحديات الداخلية والمحلية، وتنعكس بشكل واضح على النظام العالمي الذي تم إرساء قواعده مطلعَ التسعينيات والقائم على الليبرالية؛ خاصة وأن الدول الغربية تواجه اليوم تصاعداً وتوسعاً لنشاط دول غير ديمقراطية في العالم، على عكس ما كان متوقعاً في تلك الفترة حينما اعتقدت الديمقراطيات الغربية أنها أصبحت أكثر شيوعاً وقوة من ذي قبل.
ولكن ما يحدث هو أن هذه الديمقراطيات أصبحت أقل ثقة وباتت تواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على مكانتها باعتبارها نموذجاً عالمياً للتقدم والحضارة ومقياساً لمستوى التطور في المجتمع، ويمكن للمرء إدراك حجم هذه التحديات عند النظر إلى الاستقطاب السياسي وضعف المشاركة الشعبية والتحول من الأحزاب الشعبية إلى الأحزاب النخبوية والتقليدية وميل المجتمعات نحو القومية، مثل الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والخطاب الذي تبنّته إدارة الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، ما دفع الكثيرين للتساؤل إذا ما كانت هذه المشكلات تنبع من الديمقراطية أم أنها ظروف دخيلة عليها؟
لقد كثرت في الآونة الأخيرة الأدبيات التي تناقش معضلة الديمقراطية الغربية وطرق الاستجابة للتحديات التي تواجهها، وفي الكثير منها فإن أحد الأسباب الرئيسية هو التغيرات التكنولوجية المتسارعة التي أوجدت فضاءات جديدة بعيداً عن المؤسسات والقنوات الرسمية؛ حيث أثرت التكنولوجيا بشكل كبير في القيم الديمقراطية، وغيرت من المفاهيم التقليدية للهوية الوطنية والقيم المجتمعية، فأصبحت شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الرقمي تحظى بأهمية متزايدة باعتبارها قنوات جديدة للنقاشات والتفاعلات السياسية والاجتماعية، مع تضاؤل الطلب والحاجة على الوسائل الإعلامية التقليدية وتلك التابعة للدول.
الديمقراطية الرقمية هي الحل!
جادل البعض بأن التكنولوجيا يمكن لها أن تُسهم أيضاً في معالجة التحديات التي تواجه الديمقراطية، إذا ما تم توظيفها لتغيير السلوكيات والوسائل التقليدية التي تمارس من خلالها الشعوب المختلفة حقوقَها السياسية وواجباتها مثل المشاركة في الانتخابات والتصويت والاستفتاءات بشكل يعيد الثقة في الممارسات الديمقراطية ويسد الفجوة التي ساهمت في تراجعها.
ومن هنا ظهر مفهوم "الديمقراطية الرقمية"؛ والذي يُعد اعترافاً صريحاً بضرورة تطور الديمقراطية وتحولها من التقليدية إلى التكنولوجية.
من الناحية النظرية، ليس ثمة تعريف جامع للديمقراطية الرقمية في الأدبيات، إذ ينظر لها البعض كأداة من الأدوات التي تسمح بممارسة الديمقراطية، في حين يعتبرها البعض الآخر وسيلةً يتم من خلالها تعزيز مشاركة المواطنين في الحياة السياسية وترسيخها، ويذهب آخرون إلى أبعد من ذلك حين يقومون بتشبيهها بالديمقراطية المباشرة أو التداولية (النمط الأثيني اليوناني)، حيث يرى هؤلاء أن الشبكة تُتيح للمواطنين مساحات افتراضية واسعة تمكنهم من اتخاذ القرارات دون الحاجة إلى ممثلين عنهم.
وبناء على ذلك، هناك تباين في النظر إلى الديمقراطية الرقمية؛ فهناك من يراها في أضيق حدودها كأداة وهناك من ينظر إليها في أوسع حدودها كقناة رئيسية للممارسات السياسية والتفاعلات الاجتماعية، وبطبيعة الحال تتفق الباحثة جولي سيمون وآخرون على أنها "ممارسة الديمقراطية باستخدام الأدوات والتقنيات الرقمية"، حيث يُمكن توظيفها لتعزيز مشاركة المواطنين والتواصل مع الجهات الفاعلة والمساهمة المجتمعية في صنع السياسات، بعيداً عن القيود التقليدية للزمان والمكان.
ويمكن استخلاص الكثير من التعريفات النظرية لهذا المفهوم ومنها تعريف البروفيسور في جامعة أريزونا، جاي موريل ماسامبا: "المشاركة في العمليات السياسية من خلال الوسائل والأدوات المتاحة على الإنترنت، مع إمكانية الاتصال المباشر بالحكومات ومؤسسات الإدارة العامة والتأثير على السياسات".
نماذج وتطبيقات للديمقراطية الرقمية
في أوجه عديدة للديمقراطية الرقمية فإن الكثير من نماذجها مطبقة بالفعل، فقد باتت العديد من الحكومات اليوم تقدم خدماتها عبر القنوات الإلكترونية "الحكومة الإلكترونية" بعيداً عن التعقيدات البيروقراطية التي كانت تواجه المواطنين في السابق، وهناك نماذج أخرى ارتكزت فيها الحكومات على استطلاع آراء المواطنين وتفضيلاتهم حول العديد من السياسات العامة، على سبيل المثال استخدمت فنلندا في العام 2011 الإنترنت لدعوة مواطنيها للتعليق على مسودة التعديلات الدستورية، أما النموذج الذي يُعتقد بأن يصبح الأكثر شيوعاً هو ذلك الذي طبّقته في العام 2008 حملة الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، حينما ارتكزت على الديمقراطية الرقمية، حيث يرى محللون أن أحد أسباب دخول أوباما المكتب البيضاوي هو استراتيجيته التي اعتمدت على قوة التكنولوجيا والمعلومات الرقمية.
وهذه الاتجاهات آخذة في التصاعد، فقد أدركت العديد من الحكومات والمؤسسات الدولية أهمية منصات التواصل الاجتماعي كمصدر لتدفق المعلومات والتواصل مع المواطنين، ففي العام 2018، خلصت دراسة أعدتها مؤسسة "Burson Cohn & Wolfe" المتخصصة في مجال العلاقات العامة والاتصالات، أن هناك 97 دولة قامت بإنشاء حسابات رسمية لها في منصات التواصل المختلفة، في حين أن موقع تويتر وحده يستضيف 951 حساباً رسمياً موزعاً كما في الجدول أدناه.
باختصار، تقدم الديمقراطية الرقمية اتجاهات عمل جديدة للحكومات وفوائد مباشرة للأنظمة الديمقراطية، وعلى وجه التحديد فيما يتعلق بتغيير طبيعة المشاركة الشعبية في الأحداث السياسية والتي كان العزوف عنها يثير المخاوف من تقويض الديمقراطية لنفسها في نهاية المطاف، لكن وبالرغم من أن البعض ينظر إلى الديمقراطية الرقمية باعتبارها الأداة التي يمكن من خلالها سد تلك الفجوة، إلا أنها خلقت مخاطر وتحديات جديدة.
الديمقراطية الرقمية: مخاطر وتحديات!
في ضوء النظام العالمي الفوضوي الذي تغلب عليه حالة عدم اليقين، والتنافس المتنامي بين الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية وعلى وجه الخصوص روسيا والصين، فقد انتقل هذا التنافس إلى القنوات الرقمية والتكنولوجية، وقد بيّنت الانتخابات الأمريكية عام 2016 الآفاقَ التي يمكن من خلالها لخصوم الولايات المتحدة ومنافسوها من إلحاق الضرر بها؛ خاصة بعد أن اتهمت الأخيرة روسيا بالتأثير على سير الانتخابات معتمدة بذلك على نشر المعلومات المضللة.
تعد هذه الوسيلة واحدة من وسائل عديدة أخرى يمكن من خلالها للديمقراطية الرقمية التأثير سلباً في الانتخابات الديمقراطية ومنها: التلاعب في الحقائق والإجراءات والآليات التي يمكن عن طريقها أن يمارس المواطنون التصويت، أو تغيير نتائج التصويت والتلاعب بها، أو بث معلومات قد تسبب في تقويض ثقة المواطنين في العملية الانتخابية.
وفي حالة الولايات المتحدة، فقد تم ممارسة عدد من هذه الوسائل بالفعل دون الحاجة إلى خصم خارجي، بعد أن شكك الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، في نتائج الانتخابات في نوفمبر 2020، وعلى وجه الخصوص في آلية التصويت عبر البريد، ما دفع عدد من مناصريه إلى اقتحام مبنى الكونغرس الأمريكي.
ويمكن النظر إلى التصويت عبر البريد كمسبب أساسي لهذه الحادثة، ما يؤدي إلى طرح التساؤل حول كيفية الثقة في نتائج التصويت الإلكتروني إذا ما تم اعتماده على نطاق واسع في المستقبل.
تفرض الديمقراطية الرقمية تحديات كبيرة قد تدفع إلى تقويض العملية الديمقراطية برمّتها، ففي عام 2019، قام مركز "PEW" للأبحاث بالشراكة مع آخر تابع لجامعة إيلون باستطلاع آراء خبراء في مجال التكنولوجيا حول استخدامات المجتمع لهذه الأخيرة ومدى تأثيرها على الديمقراطية، حيث توقع أغلبهم – حوالي 94% – أن استخدامها سيُضعف الديمقراطية والتمثيل الديمقراطي من الآن وحتى العام 2030.
بين الديمقراطية الرقمية والأمننة الشاملة
إذاً على عكس ما كان متوقعاً، حينما توسعت الأدبيات بالدفع نحو استخدام الديمقراطية الرقمية كأداة لتشجيع المواطنين في الدول غير الديمقراطية للمطالبة بها؛ نجد أن حكومات تلك الدول استفادت من هذا النوع من الديمقراطية في ترسيخ رواياتها ونزع الشرعية عن معارضيها. وتمثل الصين مثالاً واضحاً للكيفية التي توظَّف من خلالها التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي للسيطرة على المجتمع، وقد أثارت الإعجاب حتى عند الديمقراطيات العريقة حين ساهمت السياسات الحكومية الصينية في السيطرة على تفشي جائحة كوفيد-19، بالاعتماد على أنظمتها الرقابية للمجتمع طوال 24 ساعة.
هذه الاتجاهات آخذة في التصاعد حتى في الديمقراطيات الغربية التي تواجه خللاً في التوفيق بين دور التكنولوجيا والإنترنت كعامل في تسهيل الأفكار المتطرفة والعنيفة والمضللة وبين الطريقة التي يمكن من خلالها تتبُّع هذه المنابع والأصول التي تسهم في تسهيل التطرف دون الحاجة إلى التعمق في رقابة المواطنين. بالفعل تواجه الحكومات الليبرالية اتهامات متزايدة بتوسيع رقابتها على منصات التواصل الاجتماعي، ففي العام 2020، خلُصت دراسة أعدّتها جامعة ميشيغان الأمريكية إلى أن الرقابة على الإنترنت تتزايد في 103 دول، لا سيّما في الدول التي وصفتها الدراسة بأنها "الأكثر حرية في العالم" مثل النرويج واليابان وإيطاليا، حيث تختلف التكتيكات التي تتبعها مثل هذه الدول بين إقرار القوانين المقيدة لحرية النشر أو حجب القدرة للوصول إلى بعض المواقع الإخبارية. أما الدول غير الديمقراطية فقد تلجأ إلى التضييق على حرية الوصول على خدمات الإنترنت.
ولا يقتصر خطر الرقابة على الحكومات فحسب، حيث تنحصر مشاركة المليارات من الأفراد على استخدام منصات رقمية معينة، وهم بذلك يرهنون بياناتهم وأفكارهم بيد شركات محددة وُجّهت لها اتهامات عدة بإساءة استخدامها لهذه البيانات أو بيعها لشركات أخرى أو حتى فقدانها.
الخلاصة
تواجه التجربة الديمقراطية الغربية تحديات خطيرة قد تطال مستقبلها وتُغير نماذجها القائمة، وهي نابعة بالأساس من تأثير المتغير الزمني على الأنظمة السياسية الليبرالية، حيث إن عدم القدرة على مواكبة التطورات والتسارع التكنولوجي أدى إلى اتساع الفجوة بين المواطنين المعتمدين على الرقمية في حياتهم، وبين القنوات أو المؤسسات السياسية التقليدية. ولذلك ينظر الكثيرون إلى الديمقراطية الرقمية باعتبارها الحلَ لسد هذه الفجوة في الممارسة والتطبيق، لكن ما لبثت تجاربهم هذه أن تواجه محاذير عديدة جرّاء عدم القدرة على ضبط الفضاءات التكنولوجية نتيجة تداخل الحيز العام والخاص على مستوى الدولة والفرد، وأصبح معها التأثير في قيم الدولة وهويتها الوطنية أكثر سهولة بالنسبة لخصومها، ومكّنت الدول غير الليبرالية من مهاجمة القيم الغربية والتشكيك فيها؛ خاصة وأن مكافحة هذه الأفكار تتطلب من هذه الدول ممارسة السلوكيات المقيدة للحريات وهي ما تعتبر واحدة من أكبر المخاطر على الديمقراطية بحد ذاتها.
حازم سالم الضمور
مدير عام المركز/ باحث متخصص في العلاقات الدولية والدراسات الاستراتيجية