الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين
تحاول هذه القراءة التحليلية البحث بإيجاز في أبرز العوامل التي ُتضعف من دور الجيوستراتيجية الكلاسيكية في تحديد النفوذ الدولي، ففي ظل صعود عوامل مؤثرة في حسابات القوى العالمية، فإنه لا يمكن الارتهان في القرن 21 إلى الفكر التوسعي – المكلف وغير المجدي – الذي سيطر على السياسة الدولية مطلعَ القرن العشرين، فأدوات السيطرة والنفوذ تغيرت مما يستدعي تكيّف الفكر الجيوستراتيجي مع هذه التغيرات.
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٣/٠٦/٢٠٢١
يلعب الموقع الجغرافي للدولة دوراً مهماً في تحديد سياستها الخارجية، فعلى مدار التاريخ وُظّفت التضاريس الطبيعية كأداة عسكرية، حيث تُعتبر الجبال الوعرة حصناً دفاعياً كبيراً احتمت خلفه التنظيمات البشرية من محاولات الغزو، أما البحار فكانت عازلاً طبيعياً لم يكن ممكناً التغلب عليه إلا مع تشكُّل سلاح البحرية وما رافقه من تطور في القوة الضاربة التي تتيح استهدافَ السواحل وإنشاء منطقة إنزال آمنة.
وبسبب هذا الترابط بين الجغرافيا والسياسة، سعى الفلاسفة والمنظّرون في مختلف العصور إلى التأطير النظري لهذه العلاقة، فتعددت الطروحات التي سبرت مكامن قوة الدول الجغرافية من حيث: الموارد الطبيعية وطبيعة التضاريس والمناخ وعدد السكان وتوزعه على مساحة الدولة.
وقد ساهمت هذه الشروحات المتلاحقة في بروز علم الجيوبوليتيك الذي أخذ عليه بعض الناقدين أنه تحول إلى "حُجّة" للقوى التوسعية لما تضمَّنه من تبريرات لاحتلال الأراضي المحيطة، حيث ربط رواده الأوائل – مثل فريدريك راتزل (1844-1904)، ورودلف كيلين (1864 – 1922) – حتميةَ قيام الدولة التي ترغب في ترسيخ هيمنتها الإقليمية بإجراء عمليات عسكرية توسعية لتأمين الموارد اللازمة للاحتياجات السكانية، معتبرين أن الدولة كائن حي عضوي يجب "تغذيته" بالأراضي ليتمكن من الحفاظ على بقائه.
وانطلاقاً من الحقائق والتصورات الجيوسياسية؛ انبثق طرح آخر هو الجيوستراتيجية، ومجال اهتمامه ينصب على بحث وتحديد الإقليم الذي إن سيطرت عليه قوة فإنه يسهُل بالنسبة لها الارتكاز عليه والانطلاق منه نحو النفوذ العالمي، وهو بذلك يختلف عن الجيوبوليتيك الذي يُعنى بدراسة السياسة الخارجية للدولة في ضوء موقعها الإقليمي؛ وبغض النظر عن اعتبارات الهيمنة العالمية، فلكل دولة حساباتها الجيوسياسية ولكن القوى العالمية فقط هي التي لها حسابات جيوستراتيجية مباشرة.
ولعل الحرب الباردة هي أحد أبرز تجليات الصراع الجيوستراتيجي بين قطبي العالم، حيث تسابق الطرفان إلى التخندق في كتل جغرافية متداخلة – شرقية سوفييتية وغربية رأسمالية – مما حوَّل أوروبا إلى الساحة الأبرز لهذا الصراع الذي لا يزال - لغاية الآن - ماثلاً للعيان حتى وإن تراجع تأثير البعد الأيديولوجي الشمولي في طبيعة التفاعلات الدائرة بين روسيا والناتو.
ويتجلى البعد الجيوستراتيجي في العلاقات الدولية أيضاً عندما يتم التطرق إلى إقليم الشرق الأقصى حيث القوى الصاعدة – كالصين والهند – والممرات المائية المهمة وعدد السكان الكبير القادر على المساهمة في العملية الإنتاجية والحركة الشرائية، فكل هذه العوامل تجعل من هذا الإقليم بؤرة للتوتر الدولي.
ويستند المحللون الذين يستشرفون مزيداً من التوجه الأمريكي - من الشرق الأوسط إلى الأقصى - على الطرح الجيوستراتيجي؛ معللين ذلك بأنه كلما تزايدت السيطرة على هذا الإقليم، كلما تزايد النفوذ الدولي، وبذلك "يستعير" هؤلاء المحللين الفكر السياسي في القرن العشرين لاستشراف مسارات السياسة الدولية في القرن الحادي والعشرين؛ وقد يكون من المضلل الاسترشاد بالنظريات التي فسّرت الوقائع الماضية لاستشراف المستقبل، فكما يُقال "كل النظريات هي نتاج لظروف زمنها – All Theories Are A Product of Their Time " مما يعني أن التفكير الجيوستراتيجي في القرن الحادي والعشرين لا يجب أن يكون حبيساً للفكر التقليدي المعني ببحث تمدد القوة الصلبة عبر نقاط ارتكاز حيوية تتيح عملية الانتشار وتوفير الدعم اللوجستي إلى أوسع نطاق ممكن في الكرة الأرضية.
فمثلاً، لا يمكن إغفال الجانب الاقتصادي عند بحث النفوذ في النظام الدولي، ففي ظل سعي مختلف الدول إلى تحسين الواقع المعيشي لشعبها فإنها تميل إلى تفضيل التعامل مع الدول الكبرى القادرة على دعم اقتصادها. في المقابل تسعى القوى الدولية الرئيسية إلى تحصين مكاسبها الاقتصادية حول العالم، ترغيباً وترهيباً، لأن أي تراجع في مكانتها الاقتصادية سيترتب عليه حكماً تراجع مكانتها الدولية.
وبسبب التداخل الاقتصادي العابر للحدود والمنظَّم عبر اتفاقيات دولية ومنظمات تضم معظم دول العالم – كمنظمة التجارة العالمية – لم يعد العامل الجغرافي يشكل عائقاً أمام التواصل الاقتصادي، مما أدى إلى تراجع دور الجغرافيا – وبالتالي الجيوبوليتيك – في الحسابات الجيوستراتيجية لصالح الاقتصاد.
ولكن هذا التراجع لا يعني انحسار أهمية الجغرافيا، ذلك أن الاقتصاد عاد وتقولب وفق اعتبارات جغرافية محددة، كالأطر الإقليمية التي تُعنى بزيادة التبادل التجاري بين الدول المتجاورة، كما أن ارتفاع وتيرة الشحن البحري أعاد التأكيد على أهمية الموقع الجغرافي، ذلك أن هذا الشحن يتم من خلال مضائق حيوية، كمضيق ملقا الواصل بين بحر الصين الجنوبي والمحيط الهندي، وقناة السويس الواصلة بين المحيط الهندي والبحر الأبيض المتوسط، ومضيق جبل طارق الواصل بين البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي؛ فجزء من التوتر بين القوى الكبرى يعود إلى التنافس حول هذه المضائق والممرات المائية والتي كفِلت الاتفاقيات الدولية انسيابية تدفق السلع والأفراد عبرها، ولكن يظل الدافع إلى الهيمنة والخوف من الإقصاء سبباً وجيهاً في نظر القوى المنخرطة في حرب المضائق ذات الطابع الجغرافي.
ولعل مبادرة الحزام والطريق التي تدشنها بكين هي من أبرز الأمثلة على ترابط الجغرافيا والاقتصاد، وهي تثير قلق الدول الغربية التي تعتبرها وسيلة لتمدد الصين في البنية الدولية بوسائل ناعمة، وقد تمنحها نفوذاً أكبر إذا ما ارتأت الصين "تخشين" طريق الحرير باتفاقيات أمنية مع بعض الدول الواقعة ضمن مسار المبادرة أو إقامة قواعد عسكرية دائمة تسند الموانئ المندرجة ضمن هذه المبادرة.
وانطلاقاً من هذه التصورات، أقرت مجموعة السبع في قمتها الأخيرة التي عُقدت في يونيو 2021 خطةً عالمية لإقامة طريق حرير "ديمقراطي" يزاحم نظيره الصيني ويسعى إلى استقطاب الدول التي أبدت إعجابها بمنطق السياسة الخارجية الصينية المرتكز على التنمية الاقتصادية، فمن الثغرات التي تعتري السياسة الأمريكية للتعامل مع الصعود الصيني هو عدم تقديمها لبدائل وخاصة فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية والتنموية.
وتُعنى نظريات الجيو اقتصاد ببحث العلاقة بين الجغرافيا والاقتصاد التي تم إيجازها أعلاه، كما وتبحث في تحديد نطاق تمركز رؤوس الأموال وتدفق الاستثمارات إقليمياً ودولياً، فحركة الاقتصاد لم تلغي أهمية الواقع الجيوسياسي للدولة، حتى وإن أصبحت الاعتبارات الجيوستراتيجية تتأثر بالجيو اقتصاد أكثر من جيوسياسية القرن العشرين.
وتعد التقنية أيضاً من العوامل التي قوّضت تأثير الحواجز الجغرافية والحدود في العلاقات الدولية، فلم يعد تدفق الأفكار والمعلومات رهناً بالمكان الجغرافي، ولم يعد ممكناً تطبيق مفهوم السيادة وفق المنظور التقليدي، فقدرة الدولة على ضبط مسار الأحداث داخل أراضيها تأثرت بثورة وسائل التواصل، وهو ما ينعكس على قدرتها في التأثير في موازين النفوذ الدولي.
ويأخذ التنافس السيبراني بين القوى العظمى أبعاداً عدة، كالاقتصاد والتجسس واختراق الجبهة الداخلية والتكنولوجيا العسكرية، وقد تُوظَّف القوة السيبرانية بصورة هجينة لشن هجمات على منشآت حيوية متجاوزةً القيود الجغرافية التي بُنيت على أساسها التصورات الجيوستراتيجية الكلاسيكية.
كما ويلعب الفضاء الخارجي دوراً حاسماً في حسابات موازين القوى الدولية، وتحوَّل إلى جبهة خامسة تتنافس فيها الدول الطامحة إلى التفوق العسكري مضيفاً إلى الأبعاد الأربعة السابقة (أرض وبحر وجو وسيبراني) تحدياً جديداً لا يعترف بالقيود الجغرافية الأرضية.
وبالإضافة إلى المجالات السابقة (الاقتصاد والفضاء السيبراني والفضاء الخارجي) تؤدي الثقافة دوراً مهماً في تحديد موازين القوى، وقد غاب - إلى حدٍ بعيد - هذا العامل عن المنطق الجيوستراتيجي التقليدي الذي تم تأسيسه في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ففي تلك الفترة لم تكن الثقافة عاملاً محدداً في السياسات المحلية والإقليمية.
ومن الأمثلة التي تدل على قصور المنطق الجيوستراتيجي التقليدي في الحفاظ على الدولة ومكانتها، هي أن الاتحاد السوفييتي انهار لقصورٍ في بنيته الاقتصادية والثقافية، حيث لم تستطع موسكو الإنفاقَ على توسعها المدفوع بطموح جيوستراتيجي، ولم تستطع أيضاً بلورة هوية شيوعية متماسكة عابرة للقوميات والثقافات، فصحيح أن الاتحاد الشيوعي نجح جيوستراتيجياً لكنه انهار بحكم التفاعلات الداخلية، وبدرجة أقل بحكم التفاعلات الخارجية كالحروب والإنفاق العسكري وما رافقهما من استنزاف لخزينة الدولة.
الخلاصة
في ضوء المعطيات التي تم استعراضها في هذه القراءة التحليلية، لا يمكن الارتهان للفكر الجيوستراتيجي التقليدي عند التطرق إلى قضية النفوذ الدولي، فقد وسّعت العولمة، أفقياً وعمودياً، من التفاعلات وعقّدت عملية حصر الإطار المحدد للسياسة الخارجية للدولة، كما أن الأخيرة لم تعد الفاعل الوحيد في النظام الدولي، فقد برز هناك فواعل جدد - كالشركات متعددة الجنسيات - وربما يفوق تأثيرُهم تأثيرَ ما كان يُعتبر يوماً اللاعبَ الوحيد.
كما أن جوهر الجيوستراتيجية يتركز على بحث الإقليم الرئيسي الذي يُعد مفتاحاً للنفوذ الدولي، وفي ظل القدرة على التغلب على الحواجز الجغرافية في القرن الحادي والعشرين، لم يعد الإطار المكاني عقبة في الاختراق والتواصل، مما يعني أن أدوات السيطرة يجب أن تُعلي من أهمية بعض المجالات، كالسيبراني والفضائي، وهي مجالات لا تعترف بالجغرافيا. وهذا التحول في أدوات السيطرة يشبه إلى حدٍ ما ذلك التحول الذي حدث بعد الحرب العالمية الأولى عندما أصبح لسلاح الجو السطوة الميدانية الحاسمة.
وعلى وقع تزايد الأعباء الداخلية للدولة بسبب تزايد أعداد السكان وتبعات جائحة كورونا، فإن الدول الرئيسية لم تعد قادرة على زيادة وتيرة انخراطها الدولي لما يتطلبه ذلك من كلف عالية سواء مادياً أو حتى إدارياً، مما يعني أن ما يُعتبر "مكسباً" في المنظور الجيوستراتيجي في القرن العشرين أصبح عبئاً في هذا القرن، وهو ما يتطلب إعادة قراءة الوسائل الحصيفة لتحقيق الأهداف الجيوستراتيجية، والأهم من ذلك هو إعادة تحديد الهدف الجيوستراتيجي وعدم اختزاله فقط في "السيطرة والنفوذ".
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات