الجدل حول الدعاء باللهم لا أسألك رد القضاء.. هل هو غير صحيح بالمطلق أم أننا فقط متشددون ومقلدون؟
أيام انقضت على الزلزال الذي أصاب بلدين مسلمين عزيزين علينا بأهليهما جميعهم، آلاف الضحايا ومئات آلاف المشردين ممن فقدوا بيوتهم وأثاثهم ولباسهم في ظل طقس بارد، فأصبحوا بلا مأوى وبينهم الطفل والمرأة والكبير في السن. هذا القضاء المبرم الذي وقع بمشيئة الله وتقديره جمع قلوب المسلمين وغير المسلمين، فهرع الجميع أفراداً ودولاً ومؤسسات لتقديم يد العون والمساعدة إمضاء للطف الله في ما قدر على عباده. ولقد قمنا مع من قام بما نستطيع في المشاركة بالتخفيف عن المصابين في ذويهم وبيوتهم وممتلكاتهم.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٢٠/٠٢/٢٠٢٣
أيام انقضت على الزلزال الذي أصاب بلدين مسلمين عزيزين علينا بأهليهما جميعهم، آلاف الضحايا ومئات آلاف المشردين ممن فقدوا بيوتهم وأثاثهم ولباسهم في ظل طقس بارد، فأصبحوا بلا مأوى وبينهم الطفل والمرأة والكبير في السن. هذا القضاء المبرم الذي وقع بمشيئة الله وتقديره جمع قلوب المسلمين وغير المسلمين، فهرع الجميع أفراداً ودولاً ومؤسسات لتقديم يد العون والمساعدة إمضاء للطف الله في ما قدر على عباده. ولقد قمنا مع من قام بما نستطيع في المشاركة بالتخفيف عن المصابين في ذويهم وبيوتهم وممتلكاتهم. ومن ذلك أيضاً المشاركة في وسائل التواصل الاجتماعي بالتذكير بآثار هذا المصاب الجلل، وحث المقتدرين على المساعدة، وبالدعاء بأن يلطف الله بخلقه ويرحمهم ويعينهم على ما أصابهم.
ومما نشرته شخصياً على تويتر وفيسبوك دعاء مشهور وروده على ألسنة الكثيرين في وقت وقوع المصائب، كان على النحو الآتي: (اللهم لا نسألك رد القضاء الذي أصاب سورية، بل نسألك اللطف فيه)، ثم عبرت عن أملي بأن يكون هذا المصاب بداية لتعافي سورية وفك الحصار عنها، وأكدت على أن يشارك الجميع الدعوة لفك الحصار المضروب على هذا البلد ورفع العقوبات عنه. وأحمد الله أن ما رجوناه قد تحقق بشكل أو بآخر، حيث تم تعليق العقوبات بعد أن سارع أشقاء سورية من العرب وأصدقاءهم إلى فك الحصار عنها وإرسال الطائرات المحملة بالمساعدات وفرق الإنقاذ.
ورغم كل ما بين الناس من تباعد وتنافر وتنابذ، ورغم اختلافاتهم السياسية والأيديولوجية والفكرية، استطاع هذا الزلزال أن يجمع القلوب والنفوس والألسن على خطاب واحد كان جوهره دعم المنكوبين ومساندتهم معنوياً ومادياً. أما الذين حاولوا استغلال الواقعة لتمرير رسائل سياسية متحيزة على مواقع التواصل، فكانوا يلقون من المتابعين والمعلقين التنبيه والملامة، فالجميع مطالبون في هذا الظرف بتحييد الخلافات جميعها؛ السياسية والدينية والمذهبية، ومطالبون أيضاً بتكريس كل ما هو إنساني وإغاثي. فقد كان إنقاذ روح عالقة تحت الركام، أو إيواء الأطفال الذين فقدوا ذويهم، أو توفير الدواء والغذاء للمرضى والمصابين، أولويات مطلقة لا يجب أن يذهب أي جهد بعيداً عنها.
وفي ظل الانشغالات الكثيرة التي فرضت نفسها خلال الأيام الماضية، ومنها تبعات وقع هذا الحدث الجلل، لم يُتح لي الوقت دائماً لمتابعة ما يحدث على صفحات مواقع التواصل، ومع أن بعض الأصدقاء كانوا يخبرونني بتفاعل المتابعين على المنشورات التي كتبتها، إلا أنني أجلت مراجعتها لوقت لاحق أجد فيه بعض الوقت. ولما تيسر لي ذلك وعدت للمنشورات السابقة، ومنها الدعاء الذي أوردته أعلاه، والتعليقات التي علّق بها المتابعون عليه، تفاجئت بما وجدت وخاب أملي مما قرأت!
إذ رغم أن الكثير من المتابعين قد شاركوا بالكلمة الطيبة، والدعاء للبلاد والمنكوبين فيها، إلا أن عدداً لا يُستهان به من المشاركين صرفوا تفاعلهم ومشاركتهم ليناقشوا جواز هذا الدعاء أو عدم جوازه، واختاروا لأنفسهم موقع المفتي في الدين ولا أظنهم من أهل الفتوى، بل إن بعضهم استغل المناسبة ليقدح ويتهكم ويختار من أساليب الحوار أسوأها متجنباً الرفق بالنصح والجدال بالتي هي أحسن.
لست أدافع هنا عن الخطأ إذا أخطئت، فكلنا خطاؤون ولست أنكر ذلك على نفسي قبل الجميع، وأحاول دائماً أن أتحرى الحق والصواب، ولا أتحرج من العودة عن الخطاً مهما كان، ومهما كلفني ذلك. وعليه فإني أتقبل دائماً أن ينبهني الآخرون إلى الخطأ إذا ظنوا أني أخطأت، وأشكرهم على صنيعهم طالما أحسنوا الأسلوب في النصح والتنبيه، وهذا أمر أقوم به سواء كانوا على حق أو لم يكونوا عليه، فالشكر هنا مرتبط بنيتهم الطيبة وبأسلوبهم الحسن.
أما للأخوة والأصدقاء الذين راجعوني بعدما عقبت بمنشور جديد فُهم منه وكأنني قد ثبّت فيه الدعاء السابق، وطلبوا مني أن أبيّن وجهة نظري، فسأقول الآتي:
أولاً: إن الحجة أن هذا الدعاء مردود لأنه لم يرد عن النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام هي حجة ليست صحيحة، ثمة أدعية كثيرة مأثورة عنه صلى الله عليه وسلم، ومن السنة الدعاء بها، وبالمقابل أيضاً فللمسلم أن يدعو الله بما يشاء، وهذا ما حض عليه الهدي النبوي الكريم، طبعاً مع الالتزام بالشروط الشرعية المعروفة، ومنها بحسب ما يحضرني ألا يدعو بحرام ولا يدعو بباطل ولا يدعو غير الله سبحانه ولا يعلق دعاءه بالمشيئة الإلهية (كأن يقول اللهم ازرقني إن شئت) إلخ..
ثانياً: لا يستحب للمسلم أن يدعو الله برد القضاء بالعموم، والبعض قال بعدم الجواز أيضاً، وذلك اقتداء بما أخبرنا به النبي عليه الصلاة والسلام بأنه لا يرد القضاء إلا الدعاء. فيجوز أن نقول اللهم رد عنا قضاءك برحمتك وفضلك، ورد يا رب عنّا من قضائك ما يشق علينا تحمله والصبر عليه، أما وقد وقع القضاء وصار مبرماً فهذا يستدعي الدعاء بالتسليم بقضائه سبحانه، والصبر على ما أصابنا واحتساب ذلك لوجهه الكريم.
ثالثاً: كان دعائي لقضاء مبرم قد وقع، وليس لكل قضاء على العموم، وهذا واضح لا يحتاج توضيحاً إذ حددته بالقول (القضاء الذي أصاب سورية) أي أنه وكما يفيد الفعل الماضي، قد وقع وانتهى، فيارب نسألك أن تلطف بالبلاد والعباد. وسؤال الله من لطفه مندوب ولا خلاف عليه، فهو اللطيف وهذا من أسمائه الحسنى.
رابعا: ليس من الصحيح عقلاً أن نسأل الله كي يمنع وقوع ما قد وقع، فهذا عبث لا طائل منه. كما أني لا أرغب الخوض أيضاً في مسألة لغوية معقدة ليس ثم داع لها، بل سأكتفي بالإشاة إلى أن النفي بحرف (لا) في عبارة (اللهم لا نسألك رد القضاء) قد دخل على السؤال نفسه وليس على رد القضاء، أي أن هذا مختلف تماماً عن القول (اللهم نسألك أن لا ترد القضاء) وهذا مما لا يجوز الدعاء به لما سيقع من القضاء مستقبلاً، بل المأثور أن ندعو الله ونستعيذ به من شر ما قضى.
وحين دعوت لسورية وأهلها، وأنا القريب منها ومنهم، فقد دعوت بهذه الصيغة التي يعرفها السوريون ويستعملونها في الدعاء على وجهتها الصحيحة، أي في سؤال الله اللطف بعدما وقع القضاء. واجتهدت ما أمكنني أن أدعو مثلهم عندما أدعو لهم، خاصة أني لست أرى حرجاً شرعياً في ذلك وقد وضحت الأسباب أعلاه. وعادة ما يقصد الداعون بهذه الصيغة أنهم مؤمنون بقضاء الله وراضون بحكمه ومسلّمون له، غير معترضين ولا مكذبين. ولا أدري كيف وصل الحال بمن قرأ المنشورات أن يعتبر أن هذا الكلام بدعة، وهو في الأصل ألفاظ لا ينطبق عليها ميزان البدع. لأنها متعلقة في الأصل بأمر ثابت في الدين ومتفق عليه وهو الدعاء.
من جهة ثانية، فأن أدعو للأخوة في سورية كما يدعون، هذا يذكرني بما يروى عن الإمام الشافعي أنه صلى الفجر عند قبر الإمام ابي حنيفة، فلم يقنت في صلاته، والقنوت في الفجر عند الشافعية سنة مؤكدة، فلما سُئل عن سبب عدم قنوته قال: تأدباً مع صاحب هذا القبر، وفي قصة الشافعي هذه عبرة لطيفة لمن أراد أن يكون لطيفاً.
أخيراً.. كتبت هذا المقال لأني أجد نفسي ملزماً في هذه المناسبة بالتنبيه الى حالة الجمود التي تعيشها العقلية العربية -والإسلامية، وما جرى معي على مواقع التواصل مثال حي وقريب على ذلك. كما أن فيه مؤشر خطير إلى أن تلك العقلية آخذة بالزيادة والاتساع، ومن أهم علاماتها التمسك بالقشور وبما هو ثانوي على حساب ما هو جوهري. وللأسف فقد توسعت تلك العقلية وتعززت في بعض الدول العربية من خلال مناهج تعليمية متخلفة، وضعها ووقف عليها جاهلون ومتزمتون، فعززوا التقليد والاتباع على حساب التجديد والإبداع، وغرروا بشبابنا وقادوهم إلى الانحراف والتشدد، وتركزت أهدافهم على تجنيد الآخرين ليصبحوا اتباعاً ومقلدين دون ضمير ولا وازع ديني أو إنساني. فلم يعد هؤلاء المقلدون يهتمون برأي الآخر أو يبحثوا فيه، ولا بالحذر والتفكر عند إطلاق الأحكام على غيرهم واتهامهم بالابتداع أو التضليل، بل وحتى بالتكفير والطعن في المعتقد أحياناً!
وهكذا نعود دائما إلى سيرتنا الأولى ومشكلتنا الرئيسة: لماذا انتصر التشدد وانتشر التكفير ليُتهم به كل من يحاول التفكير والاجتهاد؟ ولماذا بتنا دائماً نخشى استخدام العقل والتعبير عن الرأي والسعي الجاد نحو الحقيقة؟ والمحزن أن هذا التشدد ليس حديثاً على أمتنا الإسلامية، فقد اتُهم ومفكروها وفلاسفتها بالزندقة والضلال قديماً وما زالوا متهمين، من أمثال ابن رشد والفارابي وابن سينا وغيرهم كثير، حتى اضمحلت حضارتنا وتراجعت علومنا واستسلمنا للإحباط والجهل! بينما استمر العالم الآخر بالمقابل في سعيه إلى العقلانية والتنوير، فاتسعت الفجوة بين شرق متخلف وغرب متطور وصل إلى أعلى درجات العلم والتكنولوجيا. ولذلك فمن الطبيعي إذن وهذا حالنا، أن يصبح الدعاء إلى الله بأن يتلطف بأهل الزلزال مثاراً لجدل عقيم وتهم باطلة ومضللة. فما الذي قد يحدث إذا أردنا مناقشة بعض القضايا التي ما تزال محسوبة على المقدس؟ هكذا تعود دائماً دائرة العنف والقتل والإرهاب والتجهيل! فهل من مخرج؟
ختاماً.. اللهم ولا راد لقضائك إذا وقع، رضّنا يا رب بما ابتليت به العباد والبلاد، ونسألك اللهم أن تتلطف بنا وبهم وترحمهم وتخفف مصابهم وتجزهم عن صبرهم خير الجزاء.. اللهم آمين.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS