التوجه الأردني نحو حوض شرق المتوسط
تقيّم هذه الورقة المستوى الحالي لعلاقات الأردن مع قبرص واليونان، وتستعرض أهم الأهداف الاستراتيجية الأردنية من هذه العلاقات، كما تسلّط الورقة الضوء على البيئة الإقليمية "المتغيرة" التي تتم فيها هذه العلاقات، وتقدّم توصيات يمكن للدبلوماسية الأردنية اتباعها لتعزيز توجهها نحو حوض شرق المتوسط.
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٣٠/٠١/٢٠٢٢
تشهد الدبلوماسية الأردنية في السنوات القليلة الماضية حراكاً نشطاً نحو قبرص واليونان الواقعتين في حوض شرق المتوسط، حيث عُقدت 3 قمم على مستوى القادة في الفترة الواقعة من يناير 2018 حتى يوليو 2021، والقمة الأخيرة التي عُقدت في أثينا صدر عنها "اعلان مشترك" في دلالة على وجود إرادة سياسية لتعميق التفاعلات البينية والتأسيس لمرحلة جديدة من العلاقات، ففي العرف الدبلوماسي تعبر الإعلانات المشتركة عن رمزية تفوق البيانات الصحفية التقليدية، وقد جاء البيان المشترك ليرسم خارطة طريق مستقبلية لمسار العلاقات الثلاثية كما سيتم مناقشة ذلك بإيجاز في هذه الورقة.
تخلل هذه القمم الثلاث لقاءات وزارية ثنائية على المستوى الاقتصادي والتجاري والدبلوماسي، وفي ديسمبر 2021، عُقد في وزارة الدفاع القبرصية قمة دفاعية ثلاثية هي الأولى من نوعها، وهو ما يؤكد أن العلاقات عبر هذا المثلث الشرق متوسطي – الشامي مقبلة على مزيد من الزخم الشامل.
وتنخرط عمان في هذه العلاقات نظراً لضرورة رفع مستوى علاقاتها مع بعض العواصم التي تشترك مع عمان في الموقف من بعض القضايا السياسية والتي يمكن أن تدفع أيضاً لزيادة التبادل التجاري والاستثماري معها، وتندرج العلاقات الأردنية الصادرة نحو القبرص واليونان، سواء ثنائياً أو ثلاثياً، في هذه الغاية الاستراتيجية: تنويع خيارات السياسة الخارجية الأردنية.
وسنناقش الأهداف والوسائل الأردنية المتعلقة بهذه الغاية الاستراتيجية، ونستعرض البيئتين الإقليمية والدولية التي يجري فيها هذا الحراك، في محاولة لاستشراف مسار وطبيعة هذه العلاقات الثلاثية وما إذا كان يمكن لعمان التعويل عليها كرصيد استراتيجي.
شراكة محدودة لكن يمكن البناء عليها
ووفقا لـ "نموذج الشراكة القائم على التهديد-المصالح Threat-Interest Model of Partnership" تقسّم الروابط بين الدول إلى 4 مراحل: المرحلة الأولى هي الشراكة البسيطة، ثم الشراكة الأمنية في المرحلة الثانية، وصولاً إلى علاقات تتجاوز محركاتها التهديدات الخارجية لتشمل الضرورات الاقتصادية وزيادة درجة "اليقين" في العلاقات المتبادلة، وهذه هي المرحلة الثالثة. أما المرحلة الرابعة فهي مرحلة "الشراكة الكاملة" وتعبر عن أعلى مستوى تعاوني في المجالين: الأمني والاقتصادي الذي يرقى إلى تصنيفه ضمن العلاقات الاستراتيجية.
وبإسقاط هذا النموذج على علاقات الأردن مع قبرص واليونان، يمكن تصنيف هذه العلاقات بأنها تتراوح بين المرحلة الثانية والثالثة، إذ أن هنالك توافق على بعض التهديدات الخارجية والمواقف السياسية، وهنالك سعي لإحداث اختراق اقتصادي وصولاً إلى المرحلة الثالثة. وهذا التصنيف تدلل عليه التصريحات الرسمية الأردنية والبيانات التي تلت اللقاءات الثنائية الثلاثية، ويمكن تحديد أهداف عمان من تعزيز علاقتها مع قبرص واليونان بما يلي:
1- التشبيك على مستوى شبكات الغاز
في السنوات القليلة الماضية تتالى الإعلان عن اكتشافات ضخمة من الغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، وفاقمت هذه الاكتشافات من حدة الاشتباك السياسي بين الدول المشاطئة لها، حيث اعتمدت مختلف الدول تفسيرات متباينة لاتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لادعاء أحقيتها بملكية هذه الاكتشافات.
وصحيح أن الأردن ليس دولة شاطئية متوسطية، ولكن تسعى عمان لحجز موقع في "جيوبولتك الطاقة" كناقل للطاقة، فالاكتشافات الضخمة تبحث عن أسواق إقليمية ودولية تستوعبها، وبالفعل نجحت القيادة الأردنية في إدارة جهد سياسي لتزويد سوريا ولبنان بالطاقة الكهربائية المولدة عبر غاز "متوسطي".
ولا يقتصر التشبيك على مستوى خطوط الغاز على جوانب اقتصادية مادية، فهو يعبر في العمق عن حيوية وديناميكية الدولة وقدرتها على الاستجابة والتكيف مع التوجهات المستجدة، ولا يمكن لعمان أن تكتفي بتتبّع مشاريع الربط في قطاعات حيوية دون الانخراط فيها.
وهذا يفسر لماذا انضمت عمان إلى منتدى غاز شرق المتوسط رغم أن لا احتياطات من الغاز في أراضيها أو ساحلها على البحر الأحمر، وهذا المنتدى الذي أُعلن عن تأسيسه رسمياً في يناير 2019 يضم في عضويته 7 دول: إيطاليا وقبرص واليونان وإسرائيل ومصر والأردن والسلطة الفلسطينية.
جدير بالذكر أن الأردن يستورد جزءاً من احتياجاته من الغاز من إسرائيل، وتعكف الجهات المختصة في هذه المرحلة على إعداد دراسات تفصيلية لمشروع "الماء المحلّى إسرائيلياً مقابل الكهرباء المولدة أردنياً"، كما أن الشركات الإيطالية تقوم بدور بارز في أعمال التنقيب والاستخراج للغاز في السواحل المصرية، وبالتالي ثمة نمط جديد من روابط الطاقة يتشكل عبر شرق المتوسط.
2- تعميق التبادل التجاري الثنائي والوصول إلى أسواق شرق أوروبا
تعمل الدبلوماسية الأردنية على تهيئة المناخ لتعزيز حضور السلع الأردنية في دول شرق أوروبا، لأن الفجوة بينها وبين الأردن أقل مقارنةً بأوروبا الغربية، وتعد اليونان مدخل جنوبي نحو القارة، مما يجعل منها مساراً مرجحاً لدخول البضائع الأردنية بحراً نحو أوروبا الشرقية.
وصرّح جلالة الملك عبد الله الثاني في القمة الثلاثية الأولى أنه تم الاتفاق على التعاون ضمن إطار شراكة الأردن مع الاتحاد الأوروبي، معرباً عن تطلعه "للعمل مع قبرص واليونان للاستفادة من اتفاق تبسيط قواعد المنشأ مع الاتحاد الأوروبي في تطوير الصناعات المحلية وزيادة الصادرات لأوروبا".
ويقع جزء كبير من نجاح هذا المسعى على المستوى الإداري الفني والقطاع الخاص، فمن الواضح أن لا عقبات سياسية أمام الصادرات الأردنية، ولكن لم يتم تحقيق كافة متطلبات الدخول إلى أسواق الاتحاد الأوروبي، من حيث تلبية المعايير المحددة فنياً وإجرائياً أهمها المتعلقة بالجودة ورقابة الحكومة على العملية الإنتاجية وقدرتها على تنظيم هذه العملية بالحد الأدنى من التدخلات.
3- دبلوماسية الكوابل
هناك دور مهم تؤديه قبرص في حركة الاتصالات والبيانات الدولية، نظراً لاستضافتها عدد من كابلات الإنترنت البحرية، حيث تعد هذه الجزيرة نقطة وصل بين أوروبا والشرق الأوسط. وتنتهي روابط 14 كيبل بحري عالمي في قبرص أهمها خط "SEA-ME-WE3" المملوك لشركة "Sparkle" الإيطالية.
وعلى الأغلب ثمة تفاهمات أردنية قبرصية مشتركة أدت دوراً فيما أُعلن عنه في ديسمبر 2021 بحضور جلالة الملك عبد الله بن الحسين في إطار المشاريع قيد التنفيذ في العقبة، حيث اختارت الشركة الإيطالية وشركة جوجل مدينةَ العقبة لتكون حلقة وصل رئيسية في مشروع الكوابل البحرية الرابط بين أوروبا وآسيا وأفريقيا والمتوقع تشغيله عام 2024.
ولولا الاسناد السياسي لما أمكن تحقيق هذه الشراكة التي ستعزز مكانة الأردن على صعيد ربط الانترنت العالمي الذي لا يقل أهمية عن ربط الغاز الإقليمي.
4- تعميق العلاقات العسكرية الأردنية ومكافحة الإرهاب الدولي
تعد اليونان أحد أعضاء حلف الناتو، وتستضيف جزيرة كريت قاعدة متقدمة تمنح البحرية الأمريكية وصول عاجل في شرق المتوسط للتعامل مع التهديدات الأمنية المختلفة. ومؤخراً تزايدت مطالبات الكونغرس الأمريكي لتعميق التعاون العسكري مع اليونان في مواجهة السياسات التركية الطامحة إلى انتزاع أكبر قدر ممكن من غاز المتوسط والساعية إلى فرض وجهة نظرها حول قبرص الشمالية بمعزل عن القرارات الدولية واضحة الدلالة في هذا الشأن، كما ألقت حيازة تركيا منظومة الدفاع الجوي الروسية "S-400" بظلالها على ترتيب الأولويات الأمريكية الدفاعية في شرق المتوسط، فتباعد – نسبياً – الثقل العسكري الأمريكي عن تركيا متجهاً إلى اليونان بشكل مركز.
وهذا التوجه الأمريكي يأتي بعد الصعوبات التي واجهت إمكانية استعادة العلاقات الأمريكية التركية التي كانت لعقود ركيزة أساسية في العقل الاستراتيجي الأمريكي في مناطق شرق المتوسط والشرق الأوسط والبحر الأسود.
وفي يونيو 2021 قدّم أعضاء من مجلس الشيوخ الأمريكي مشروع قانون "الدفاع والشراكة البرلمانية بين الولايات المتحدة واليونان لعام 2021" والذي يمنح الجيش اليوناني أولوية في حيازة طائرة "F-35" والقدرات الدفاعية. وتضمن قانون الانفاق الدفاعي الأمريكي لعام 2022 تخصيص بنود لتعزيز الدعم الأمريكي لدور إسرائيل واليونان وقبرص في شرق المتوسط، وسبق هذا القانون تعديل واشنطن وأثينا في أكتوبر 2021 اتفاق دفاعي مشترك لمنح الجيش الأمريكي حرية الوصول إلى القواعد العسكرية اليونانية.
وفي نفس السياق وقعت عمان وواشنطن اتفاقية دفاعية في مارس 2021، مما يعني أن العلاقات العسكرية الأردنية اليونانية مرشحة لمزيد من التطور بحكم الحليف الأمريكي المشترك، وشاركت مقاتلات أردنية في مناورات دولية أُقيمت في اليونان وضمت أيضاً دولاً إقليمية.
أما قبرص فهي تنخرط منذ 2018 في حوار تعاون أمني "Security Cooperation Dialogue" مع واشنطن، وعلى صعيد العلاقات العسكرية الأردنية القبرصية فهي أيضاً مرشحة لمزيد من التقدم بعد الزخم السياسي وتوالي لقاءات المسؤولين العسكريين كان آخرها لقاء رئيس هيئة الأركان المشتركة الأردنية، يوسف الحنيطي، رئيسَ أركان الحرس الوطني القبرصي الفريق، ديموكريتوس زيرفاكيس، مطلع العام 2022 في العاصمة عمان، والتي مثلت تقارباً حقيقياً وليست مجرد لقاء عسكري بروتوكولي.
أمنياً، تتبنى الدول الثلاث منهجية متقاربة قائمة على المواجهة الاستباقية الجذرية وتجفيف منابع التطرف العنيف. وتعد اجتماعات العقبة الأمنية واحدة من حلقات التباحث الأمني المشترك كما جاء في عدة تصريحات رسمية تلت اللقاءات الثنائية والثلاثية.
5- القضية الفلسطينية والمسألة القبرصية
تؤكد التصريحات الرسمية اليونانية على دعم الوصاية الهاشمية على المقدسات في القدس، والمعتاد في التصريحات الأوروبية هو تأكيد دعم حل الدولتين، ولكن تأخذ أثينا موقفاً واضحاً في إظهار احترامها للدور التاريخي للهاشميين في القدس.
وتحرص الدبلوماسية الأردنية على استقطاب التأييد الغربي والمسيحي حول القضية الفلسطينية، وهي تحقق نجاحات في هذا الميدان كاختراق تأييد قبرص واليونان في جوانب من هذه القضية رغم علاقتيهما المتقدمة مع إسرائيل، وهو ما يحسب لقوة الدبلوماسية الأردنية "الناعمة".
في المقابل من هذا التأييد للقضية الفلسطينية، يُلاحظ أن تصريحات الخارجية الأردنية أخذت مؤخراً تدعو إلى حل "المسألة" القبرصية وفق اعتبارات القانون الدولي، وهذا تأكيد على دور الحوار الناجز وفق مرجعية القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة في حل القضايا الشرق أوسطية.
6- تنسيق المواقف والجهود لاحتواء أزمة اللجوء
تشترك اليونان مع الأردن في مواجهة أزمة لجوء فرضتها الاضطرابات السياسية والاقتصادية في المنطقة، حيث تدفقت عبر الحدود التركية اليونانية موجات لجوء نحو أوروبا، كما أن جزر اليونان تعد وجهة مفضلة لسماسرة الهجرة غير الشرعية عبر البحر الأبيض المتوسط.
ولذلك تنسق عمان وأثينا الجهود الإقليمية والدولية للتعامل مع تداعيات اللجوء الاقتصادية والأمنية، وكثيراً ما زارت قيادات عالمية مراكز اللجوء في الأردن واليونان، كالبابا فرانسيس الأول الذي خصص جزءاً من رحلته إلى اليونان في ديسمبر 2021 لزيارة لاجئين في جزيرة لسبوس، وقد وجه في زيارته انتقادات حادة لأوروبا التي "تمزقها الأنانية القومية" في مسألة الهجرة.
وتدعم قبرص واليونان خطط استجابة المملكة للتعامل مع أزمة اللجوء السوري عبر دعم ما يقرّه الاتحاد الأوروبي من منح وقروض. كما تدعم هاتين الدولتين، مالياً وسياسياً، المساعي الهادفة لاستمرار "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى – الأونروا" في تأدية مهامها في مخيمات فلسطين والأردن ولبنان.
إعادة رسم الخارطة الشرق أوسطية
لا يمكن النظر إلى الشرق الأوسط بنفس المنطق القديم، ففي ظل فك الارتباط الأمريكي التدريجي وتزايد الحضور الصيني الروسي، تسعى الدول الشرق أوسطية إلى بناء مساحة من المناورة تحول دون وقوعها في معضلة الاختيار وبما يحافظ على سيادتها دون تبعية مطلقة لهذا الطرف أو ذاك.
والدولة الأردنية ليست استثناءً في هذا الصدد، فهي تحاول أن تنسج روابط جديدة تعوّض ما قد تتعرض له علاقاتها التقليدية من تغيرات، وتحصن مكانتها الجيوسياسية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمصالح الوطنية العليا.
ورغم عدم وجود تجاور جغرافي للأردن مع قبرص واليونان، إلا أن علاقاته مع هاتين الدولتين تندرج في كونها جزء من الروابط الإقليمية، أو بصورة أدق جزء من المجال الحيوي الواسع للأردن، ففي ظل كثافة تدفق التفاعلات وعولمتها عبر الفضاء السيبراني لم يعد مفهوم المجال الحيوي للدولة مقتصراً على الجوار المباشر وإنما أصبح يمتد ليشمل المحيط المؤدي لجوار الدولة.
وهذا التوجه الأردني نحو التشبيك الإقليمي صرح حوله جلالة الملك عبد الله بن الحسين في القمة الثلاثية الأخيرة (أثينا يوليو 2021) حيث قّدر جلالته أن هنالك "إمكانية للبناء على شراكتنا المميزة مع العراق ومصر، والتضافر مع هذين البلدين لبحث القضايا المشتركة"، داعياً إلى أن تتطرق مباحثات القمة الثلاثية إلى مصر والعراق كجزء من التكامل الإقليمي الأوسع.
وهذين البلدين – مصر والعراق – دخلا مع الأردن في طور التطبيق العملي لشراكة تنموية في إطار مشروع اقتصادي، مما يعني أن الأردن يمكن أن يكون حلقة وصل بين أطراف الشام والشرق المتوسط يسعى أعضائهما لتغيير الطبيعة التنافسية للعلاقات الشرق أوسطية، عبر الشراكات الاقتصادية الخدمية وتقليص النزعة السياسية لهذه العلاقات.
على النقيض من هذه الشراكات، تستشعر قوى إقليمية أنها تتعرض لأقصاء ممنهج وتهميش لحضورها، فتركيا تدرك تماماً أن الشراكة الاستراتيجية بين قبرص واليونان وإسرائيل تحدّ من فرصها الاقتصادية لتصدير الغاز المتوسطي، ذلك أن هذه الشراكة تتضمن بناء خط أنابيب من السواحل الإسرائيلية نحو قبرص فاليونان وحتى أوروبا.
وتدعم واشنطن هذه الشراكة لأنها تقلص من الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي وأسعاره المتقلبة تبعاً للظروف السياسية. يضاف إلى ذلك أن امتلاك إسرائيل السبق لتصدير الغاز المتوسطي يعني إبعاد الغاز الإيراني مستقبلاً -إذا ما رُفعت العقوبات الأمريكية- عن أوروبا، كما أن سواحل حلفاء إيران السورية واللبنانية مرجح وجود كميات ضخمة فيها من الغاز.
وترى مصر أن الشراكة الإسرائيلية القبرصية اليونانية تضعف من فرصها لاستحواذ حصة كبيرة من تصدير الغاز الإقليمي والدولي، رغم أن الدول الأربع ترتبط بعلاقات أمنية وعسكرية واقتصادية واسعة ويجمعها عوامل كثيرة، منها مكافحة الإرهاب.
إذاً تدور على ضفاف المتوسط رحى اشتباك كامن واسع النطاق، وما لم تقتنع كل الأطراف بضرورة التوصل إلى حلول توافقية لا يشعر فيها طرف بأنه تم إقصاؤه، فإن غاز المتوسط سيصبح عاملاً من عوامل التأزيم الإقليمي، وترى بعض التقديرات أنه أصبح بالفعل أحد هذه العوامل، لكن من المبكر الجزم بأن الدول المعنية ستفشل في إقرار صيغة مربحة للجميع "Win-Win Solution".
أمام هذه المعطيات، لا يمكن للأردن الاكتفاء بمشاهدة هذه التحولات في المنطقة دون المبادرة في أخذ موقف وحجز موقع متقدم في خارطة الشرق الأوسط المعاد تشكيلها وفقاً لمشاريع الربط الإقليمي والدولي، كما أن الثقل الاستراتيجي للشرق الأوسط ينزح نحو شرق المتوسط مبتعداً عن مضيق هرمز المتخم بالتوترات.
بناء على ما سبق، يتضح أن هناك توافر إرادة سياسية بين الدول الثلاث لتعميق أوجه التعاون، ولكن ثمة مسار طويل من العمل اللازم على المستوى الفني لترجمة هذه الإرادة إلى واقع، يضاف إلى ذلك أن قبرص واليونان لا تستطيع توفير اسناد استراتيجي للأردن، والأردن كذلك بمحدودية قدراته الاقتصادية لا يستطيع أن يكون على سلم أولويات قبرص واليونان.
وتدلل المؤشرات التجارية على أن علاقات عمان مع قبرص واليونان لا تزال في طور التأسيس، فلم تزد الصادرات الأردنية إلى هاتين الدولتين عن 20 مليون دولار عام 2019، كما أن العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الأردن وقبرص لم تُدشن إلا عام 2016. وكما جاء في مقدمة البند الأول، ستظل العلاقات الأردنية مع قبرص واليونان تتراوح بين المرحلة الثانية والثالثة على المدى القريب – المتوسط.
وبالتالي لا يعول الأردن على تفاعلاته الآخذة بالتوسع في حوض المتوسط لتكون بديلاً عن علاقاته التقليدية القائمة الآن، وإنما الهدف هو تنويع خيارات السياسة الخارجية والاستعداد لسيناريوهات متطرفة واستقطاب مزايا اقتصادية.
والمؤكد لدى الباحثين في السياسة الخارجية الأردنية أنها تقوم بدورها عندما يتعلق الأمر بالسياسة الصلبة والأمن، ولكن يلزم الكثير من العمل لتعميق التفاعلات الاقتصادية من وإلى المملكة، وهذه قضية يجب أن يلعب القطاع الخاص والمؤسسات الاستشارية دوراً فيها. ومن المحتمل أن يواجه نمو العلاقات الثلاثية كوابح سياسية.
ويبقى المهم في هذه العلاقات أنها تتم على الخط العالمي الفاصل بين الجنوب والشمال: الجنوب الفقير المصدّر للأزمات واللاجئين، والشمال الغني المصدّر للتكنولوجيا والرفاهية، وبالتالي يمكن للدول الثلاث التأسيس لمنصة حوار عالمي بين الشمال والجنوب، وبما يجسُر التباين في التصورات والانطباعات بين الشعوب ويمهد الطريق نحو تعاون إقليمي يحل محل التنافس الصفري الدافع نحو مزيد من التصارع في الشرق الأوسط الكبير، بخليجه العربي وبحره المتوسط وشرقه الأدنى وشماله الإفريقي.
ولتعزيز فرص نجاح الدبلوماسية الأردنية في تطوير العلاقات مع اليونان وقبرص، يمكن النظر بعين الاعتبار إلى ما يلي:
1- زيادة وتيرة التفاعلات الاقتصادية والثقافية والسياحية، والاتفاق على عدم تأثر هذه التفاعلات بأي خلافات سياسية قد تطرأ مستقبلاً، خصوصاً المواقف ذات الصلة بالمسألة القبرصية والقضية الفلسطينية.
2- التمهيد لشراكات متقدمة في القطاع التكنولوجي بين الأردن وقبرص، ونقل خبرات في مجال السايبر للشركات التكنولوجية الأردنية، فهذا القطاع الآخذ بالنمو في الأردن يمكن له الاستفادة من مزايا عدة في قبرص، كموقعها الإقليمي والعالمي كرابط لكوابل الانترنت ووجود مقرات لعدة شركات تكنولوجية مهمة فيها.
3- تكثيف الجهود لربط العلاقات الثلاثية (الأردن واليونان وقبرص) مع المخرجات الاقتصادية للشراكة الثلاثية بين الأردن ومصر والعراق، والعمل لتكون الأردن منفذاً لوجستياً لقبرص واليونان إلى العراق وسوريا (في ظروف لاحقة) ، وهو ما قد يؤدي إلى زيادة الصادرات الأردنية إلى قبرص واليونان.
4- إدماج قبرص واليونان في ملفات شرق أوسطية وممارسة عمان لمزيد من الترابط العربي الشرق متوسطي بالتنسيق مع مصر، فهنالك الكثير من نقاط الالتقاء والتحديات المشتركة التي يمكن للعمل الموحد أن يسهم في معالجتها بما يعود بالنفع على جميع الأطراف.
5- توضيح النوايا والأهداف الرسمية الأردنية من هذه العلاقات، حتى لا يترتب على تطويرها تدهور العلاقات الأردنية مع دول أخرى لا ترتبط بعلاقات تعاونية مع اليونان و قبرص.
6- الاتفاق على شكل من التنسيق العسكري المستمر بين الدول الثلاث، ومأسسة هذا التنسيق لتوجيه مزيد من الاهتمام الأمريكي للدول الثلاث كنقاط ارتكاز في الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط الكبير.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات