التعديلات الدستورية في روسيا: فهم السياق والمدلول
تبحث هذه المادة في مدلولات التعديلات الأخيرة التي خضع لها الدستور الروسي عام 2020، وفي سياقها الداخلي والخارجي، وتحاول الإجابة عن السؤال المحوري التالي: ما الذي قد يفعله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد انتهاء فترة رئاسته عام 2024 في ضوء هذه التعديلات الجديدة؛ وبالأخص تلك التي طالت المؤسسات السيادية والمواد التي تخص الفترة الرئاسية؟
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٢/٠٧/٢٠٢٠
خضع الدستور الروسي لتعديلات وتغييرات عميقة؛ خاصة في المواد المتعلقة بالثقافة المجتمعية، والمحافظة على القومية، والضمانات الاجتماعية، والامتيازات التي تغير من التوازن بين السلطات، والقيود على التعيينات، إلى جانب تغيير المواد الدستورية المتعلقة بالفترة الرئاسية، ومما لا شك فيه أن التعديلات التي طالت الفترة الرئاسية هي من أكثر التعديلات التي جذبت الاهتمام.
ومن هنا؛ تبحث هذه المادة في مدلولات هذه التعديلات وفي سياقها الداخلي والخارجي، وتحاول الإجابة عن السؤال المحوري التالي: ما الذي قد يفعله الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعد انتهاء فترة رئاسته عام 2024 في ضوء التعديلات الدستورية الجديدة؛ وبالأخص تلك التي طالت المؤسسات السيادية والمواد التي تخص الفترة الرئاسية.
ملخص أحداث
• اقترحت النائبة عن الحزب الحاكم في مجلس الدوما الروسي، فالنتينا تيريشكوفا، في مارس 2020، إضافة تعديل يتعلق بـ "تصفير العداد"، ويعني ذلك أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يمكنه أن يترشح للانتخابات بعد انتهاء فترة رئاسته الحالية، مثله مثل أي مواطن آخر؛ معللة ذلك بأن: "بوتين بحاجة لأن يكون هناك في حال حدوث خطأ ما".
• أدت هذه التغييرات إلى إعادة تحديد فترة الرئاسة للشخص الواحد بدورتين رئاسيتين، بعد أن كانت "دورتين متتاليتين"، وعند دخول التعديلات حيز التنفيذ؛ فإن "تصفير الدورتين" سيتيح للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، البقاء في السلطة حتى عام 2036.
• لم يُشر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى نيته صراحة في خوض الانتخابات بعد انتهاء فترة رئاسته الحالية في 2024، وقد زاد من التكهنات ما قاله في حديثه أمام مجلس الدوما حول التعديلات الدستورية: "أنا على يقين من أننا سوف نقوم معاً بأمور أعظم بكثير، على الأقل حتى عام 2024، ثم سنرى".
اتجاه عالمي جديد للقادة البارزين
تعد هذه هي المرة الثانية التي يُطوع فيها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، القواعد الدستورية في سبيل تمديد فترة حكمه؛ حيث كانت المرة الأولى حين قام الرئيس الروسي السابق، دميتري ميدفيديف، بتمديد فترة الحكم إلى 6 سنوات بدلاً من 4 سنوات، وبالرغم من أن دميتري هو من تقدم بطلب التعديل، إلا أن بوتين هو من استفاد منه، حيث عاد للكرملين عام 2012 لفترة رئاسية تمتد إلى 6 أعوام؛ إذ أن كلاهما ينتميان لنفس النخبة الحاكمة. وفي عام 2018، أعيد انتخابه لولايته الحالية التي من المقرر أن تنتهي عام 2024، ومع دخول التعديلات حيز التنفيذ؛ فإنه سيكون بمقدور الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الذي أمضى 20 سنة في السلطة كرئيس للدولة وكرئيس للوزراء، أن يبقى فيها حتى عام 2036.
لا يمكن حصر هذا المسار في الرئيس بوتين وحده، بل يكشف ذلك عن اتجاه عالمي جديد للقادة البارزين؛ فما أقدم عليه بوتين، طبقه سابقاً الرئيس الصيني، تشي جين بينغ، الذي استلم السلطة في عام 2012، حيث مهد الحزب الشيوعي الصيني في عام 2018 للرئيس تشي الطريق نحو البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى، بعد أن شهدت الصين مراجعة دستورية أزالت القيود عن "تولي الرئيس السلطة لفترتين"، إذ ألغيت المادة التي تنص على بقاء الرئيس ونائبه في الحكم لمدة دورتين متتاليتين فقط؛ بحيث كانت مدة كل منهما 5 سنوات.
كذلك فعل الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي يمكن له البقاء في السلطة حتى عام 2028؛ حيث تولى منصب رئاسة الوزراء لمدة 11 عاماً، وأقدم على إحداث تغييرات عميقة طالت القواعد الدستورية، وحول الجمهورية من نظام حكم برلماني إلى آخر رئاسي في عام 2017، فأصبح بذلك قادراً على الترشح كرئيس لفترتين أخريين لمدة 5 سنوات، متمتعاً بصلاحيات واسعة في الحكم.
إن الحاجة للحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي بررت ضرورة بقاء هؤلاء القادة في السلطة بدلاً من البحث عن خلفاء جدد، وبمعنى آخر؛ تأجيل المضاعفات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي قد تنتج عن انتقال السلطة إلى زعيم آخر، وهو ما عبر عنه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في خطابه أمام مجلس الدوما في مارس 2020 قائلاً: "الرئيس هو الضامن للدستور، أو ببساطة، الضامن لأمن البلاد، والاستقرار الداخلي".
من جهة أخرى؛ فلا بد لهؤلاء القادة الترشح لمرات عدة من أجل ضمان استمرارية برامجهم الداخلية، ولعل الرؤية القومية لهؤلاء القادة هي أحد أهم المرتكزات التي يسعون للحفاظ عليها، إلى جانب ضمان استمرارية برامجهم الخارجية المدفوعة بطموحات الهيمنة، ورفع المكانة الإقليمية والعالمية؛ دون انتقال السلطة إلى زعيم آخر قد يتجرأ على المساس بها، فعلى سبيل المثال، تمثلت هذه الطموحات في نشاطات مختلفة في السياسة الخارجية الروسية، بدءاً من التدخل الروسي في جوروجيا وشمال أوكرانيا، وضم جزيرة القرم، إلى التدخل في سوريا لصالح الرئيس السوري، بشار الأسد، علاوة على تنامي الدور الدبلوماسي الروسي في الشرق الأوسط، وبذلك ستمكن التعديلات الدستورية الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، من ضمان إتمام هذه "المكتسبات" دون مزاحمة، وكذلك الأمر بالنسبة للرئيس الصيني، تشي جين بينغ، الذي قدم رؤيته للصين باعتبارها قوة عالمية، مع مشروعه الطموح الذي يطلق عليه مبادرة "الحزام والطريق". وعلى المنوال ذاته، تمكن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من إعادة تقديم تركيا على أنها دولة ذات مكانة إقليمية.
مدلول الاستفتاء والتوقيت
بالرغم من أن إجراءات التصويت الذي تم على التعديلات في 1 يوليو 2020، ليس مطلباً أو شرطاً دستورياً، إلا أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، اقترح أنه من المهم أن "يعبر الناس عن موقفهم المباشر تجاه التعديلات المقترحة"، وبالفعل جاءت نتائج التصويت كما تشتهي السفن، حيث وافق الناخبون الروس - بأغلبية الاستفتاء - على التعديلات الدستورية، فوفقاً للجنة الانتخابات المركزية الروسية، بلغت نسبة المشاركة في الاستفتاء نحو 68%، وأظهرت نتائج التصويت أن حوالي 78% منهم أجابوا بـ "نعم".
كان يخشى كل من: الرئيس بوتين والدوائر المحيطة به من هذه الإجراءات والتوقيت؛ ويُعزى ذلك إلى سبب وجيه؛ وهو مدلول الاستفتاء بوصفه تفويضاً من الأسفل إلى الأعلى، وتعبيراً مباشراً عن سلطة الشعب، مع ضرورة ضمان عدم تأثر الاستفتاء الدستوري بتداعيات وباء "كورونا" التي أثرت على المستويات المعيشية، خاصة مع توقعات البنك المركزي الروسي باحتمالية تقلص الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة تتراوح ما بين (4% - 6%) في عام 2020، نتيجة لسياسات الإغلاق الروسية لمكافحة وباء "كورونا"، ناهيك عن تأثير انخفاض أسعار خام برنت بعد أن أطلقت كل من: روسيا والمملكة العربية السعودية حرب أسعار في 6 مارس 2020، لينخفض السعر من حوالي 68 دولار للبرميل بداية عام 2020، إلى أدنى مستوى له خلال النصف الأول من العام؛ أي إلى نحو 19,3 دولار للبرميل الواحد في 21 أبريل، وذلك قبل تعافيه تدريجياً ليصل إلى نحو 40 دولار مع نهاية شهر يونيو.
وكذلك يمكننا فهم مبررات تقديم الحكومة الروسية برئاسة دميتري ميدفيديف استقالتها قبيل الإعلان عن التعديلات الدستورية، حيث أظهر آخر استطلاع للرأي أجراه مركز الأبحاث الروسي، ليفادا، في ديسمبر 2019، انخفاضاً في شعبية ميدفيدف؛ إذ عبر نحو 61% عن عدم رضاهم على أدائه كرئيس للوزراء، في إشارة إلى مسؤوليته عن تدهور النبى التحتية، والانخفاض العام الحاصل في الاقتصاد ومستويات المعيشة.
وربما يكمن وراء هذه المبررات بعض القلق لدى الرئيس بوتين وحكومته، ويتمثل في النمو الأخير لحركات الاحتجاج في روسيا، حيث تكررت الحركات الاحتجاجية عام 2019، وأخذت في التزايد من حيث العدد؛ ففي سبتمبر من نفس هذا العام، نقل موقع (فرانس 24) مشاركة نحو 40 ألف شخص في موسكو في الحركات احتجاجاً على رفض ترشيحات شخصيات من المعارضة، وفي أغسطس من نفس العام أيضاً؛ شارك عشرات الآلاف في العاصمة موسكو في الاحتجاجات للمطالبة بإنهاء المحاكمات المرتبطة بالاحتجاجات السابقة؛ وفقاً لصحيفة الجارديان البريطانية.
هذا وإن القيود المفروضة على التنقل والحركة نتيجة للسياسات المتبعة لمكافحة وباء "كورونا" قد منحت السلطات الروسية خطوة متقدمة على المعارضة؛ وقد تمثلت بالآتي:
أولاً: حالت دون أن تشهد روسيا أية مظاهرات بالرغم من الانتقادات التي وجهت إلى الاستفتاء، فقد وصف المعارض الروسي، أليكسي نافالني، النتائج الرسمية للتصويت على التعديلات الدستورية بأنها "مزيفة" و "كذبة كبيرة".
ثانياً: حالت دون تمكين المعارضة من تقديم رؤيتها في رفض التعديلات والترويج لها، وهذا ما تضمنه تقرير مجموعة (Golos) - وهي مجموعة روسية مستقلة لمراقبة الانتخابات - ضمن جملة من الانتقادات التي وجهت للاستفتاء؛ منها عدم ضمان التعددية من خلال عدم وجود تنظيم للحملات وقواعد لتمويلها؛ في إشارة إلى القيود المفروضة على معارضي التعديلات الدستورية، وقد اتخذت لجنة الانتخابات المركزية لنفسها دوراً لتعزيز موقف مؤيدي هذه التعديلات؛ ما اعتبرته المجموعة انتهاكاً للقانون.
لكن حين تُرفع هذه القيود، قد تشهد روسيا تجمعات ومظاهرات كبيرة، وهو ما يعتقده عالم السياسة، ألكسندر كينيف، نقلاً عن أخبار موقع (DW)؛ إذ قال: "إنهم يعرفون - أي المسؤولين الروس - أنه بمجرد رفع القيود، فإن عدم الرضا الذي يتراكم الآن سوف ينتشر ابتداءً من الإنترنت - في إشارة إلى دعوات التظاهر عبر الإنترنت – وصولاً إلى العالم الواقعي"، أو قد تستفيد المعارضة من عدم الرضا الموجود لدى فئات من الروس لاستغلاله في التعبئة لأية مظاهرات قادمة؛ خاصة خلال الانتخابات التشريعية التي ستجري في خريف 2021.
سؤال حول الخطوة القادمة
فتحت التعديلات الدستورية أبواباً لسيناريوهات عدة. في البداية ألمح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في أعقاب الاستفتاء، أنه قد يترشح في الانتخابات الرئاسية القادمة، إذ قال في يونيو 2020: "لم أتخذ أي قرار حتى الآن، أنا لا أستبعد أنني سأترشح إذا تجلى ذلك في الدستور؛ سنرى". ويبدو أن الرئيس بوتين - على غرار الرئيسين أردوغان وتشي - سيترشح إلى فترة رئاسية جديدة كخطوة أولى، وخلالها فمن المرجح أن يبدأ بالبحث عن خلفاء له، بالرغم من امتعاضه سابقاً من فكرة البحث عن خلفاء، بالقول: "نحن بحاجة إلى المضي قدماً في العمل، وليس البحث عن خلفاء"، ومع ذلك فإن بوتين يستخدم هذا الخيار عندما يتعلق الأمر بغاياته وطموحاته، ففي السابق ترشح ميدفيدف إلى الرئاسة عام 2008، عندما تجاوز بوتين حد الفترتين، ليحتفظ بوتين آنذاك بمنصب رئاسة الوزراء.
وراء هذا الطرح ضرورة ملحة للرئيس بوتين البالغ من العمر 67 عاماً، وحيث أنه لم يتجاوز بعد متوسط العمر الشائع في روسيا وهو 72 عاماً - وفقاً لبيانات البنك الدولي - فإنه مع انقضاء السنوات الأربع المتبقية من فترة رئاسته، وعلى فرض أنه ربما ينوي البقاء في السلطة حتى عام 2036، فحينها سيبلغ من العمر 83 عاماً؛ وهنا: فإنه قد يكون مُعرضاً إلى حد ما لمواجهة أزمة صحية أثناء وجوده في منصبه، وهو ما يستوجب ضرورة البحث عن خليفة موثوق له.
لكن ذلك ليس كافياً، حيث يبدو واضحاً أن التعديلات الدستورية أخذت في اعتبارها أسوأ السيناريوهات بالنسبة لبوتين والنخبة المحيطة به، لذا رسخت فكره وتوجهاته الثقافية المحافظة، حيث أنه بمجرد أصبح منصب الرئيس شاغراً أو تزايدت شعبية المعارضة، سيكون على من سيتولى هذا المنصب أن يتناسب مع المحددات الدستورية الدقيقة؛ من هذه المحددات: عدم السماح للذين يحملون جنسية أجنبية أو تصريح إقامة في دول أخرى بشغل منصب الرئاسة أو بتعينهم كرؤساء للوزراء أو وزراء أو قضاة أو رؤساء محافظات.
ناهيك عن التعديل الخاص بسيادة القواعد الدستورية على القوانين الدولية، حيث أن المسؤولين الروس مجبرون - على أرض الواقع - على عدم تقديم أية تنازلات للغرب إذا ما أرادوا الالتزام بالقواعد الدستورية الجديدة، علاوة على التعديل الذي يحظر تسليم أجزاء من الأراضي الروسية، ويجعل ذلك من سياسات بوتين في ضم جزيرة القرم مبدئاً دستورياً غير قابل للتفاوض حوله أو الاختلاف بشأنه.
بعد كل ما سبق؛ يبقى مبدأ التوازن بين السلطات هو الأهم، حيث منحت التعديلات الدستورية الجديدة مجلس الدوما الحق في اختيار رئيس للوزراء، ورفض تعيين الوزراء أو نائب لرئيس الوزراء، وعززت دور مجلس الدولة الذي يختص بإقرار الشؤون الداخلية والخارجية للدولة. وفي ظل وجود بوتين؛ فإنه من غير المرجح أن تُترجم هذه المؤسسات القواعد الدستورية الجديدة بدقة، إلا أنها - أي القواعد - قد تكون ضوابط مؤسسية وثقل لتحقيق توازن فعلي بين السلطات؛ في حال تسلم شخص آخر غير بوتين الرئاسة.
خِتاماً
من الواضح أن الحفاظ على مكتسبات السياسة الخارجية تلعب دوراً في تجاوز القواعد الدستورية السابقة واستبدالها بقواعد جديدة تطيل من أمد الرئيس بوتين في السلطة، ولذا ستستمر سياسات بوتين الخارجية في أوكرانيا وسوريا، ومع ذلك فإن أمام بوتين فترة رئاسية ستغلب عليها التحديات الداخلية تتمثل في: البحث عن خليفة له يلقى قبولاً شعبياً واسعاً، إضافة إلى تنامي دور المعارضة، وتزايد حركة الاحتجاجات في شوارع روسيا، التي ترفض تركيز السلطة بيد شخص واحد.
سينجح بوتين على المدى القريب في ترسيخ مقاليد حكمه، لكنه قد يواجه صعوبة على المدى البعيد؛ وقد يجد نفسه على غرار الرئيس الصيني الأسبق، يوان شيكاي، الذي نصب نفسه عام 1915 إمبراطوراً، ليتخلى فيما بعد عن محاولاته إثر الضغوط الشعبية والانتفاضات العسكرية ضده.
ومن هنا: يُتوقع على المدى المتوسط أن تغلب التحديات الداخلية على النشاط الخارجي للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وبالرغم من أن ترسيخ مكتسباته الخارجية هي على نفس القدر من الأهمية، إلا أن تعزيزها وتطويرها لن يكون بالسهولة ذاتها خلال الأيام القادمة.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات