البوابة الثامنة في فصول دمشق

أُطلق على أول عاصمة مأهولة في التاريخ العديد من الأسماء والألقاب، كدلالة على ديمومة أفعال هذه المدينة الضاربة قديما في عمق الحضارة، إلا أن لفظ “الشام” كان الأجمل على الإطلاق، إذ صبغ هذا اللفظ محيطها وقاطنيها على مرّ العصور، بصبغة عاطفية وحسية قلّ مثيلها في العالم.

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ١٨‏/٠٦‏/٢٠٢١

أُطلق على أول عاصمة مأهولة في التاريخ العديد من الأسماء والألقاب، كدلالة على ديمومة أفعال هذه المدينة الضاربة قديما في عمق الحضارة، إلا أن لفظ “الشام” كان الأجمل على الإطلاق، إذ صبغ هذا اللفظ محيطها وقاطنيها على مرّ العصور، بصبغة عاطفية وحسية قلّ مثيلها في العالم.

ونادرة هي المرات التي تقع فيها جماعاتٌ إنسانية مختلفة في حب مفهوم واحد ومطلق كهذا. ولأنني “شاميُّ” الهوى، تستوقفني بوابات دمشق السبعة المحيطة بها، التي تحمي خلفها تاريخا عريقا يحاكي حضارات كثيرة عبرت من الشام، وإن كان لدمشق سبعة أبواب مرئية بشكلها الحجري المزخرف، فإن مجموع أبوبها في الحقيقة هو (سبعة + واحد) وأنا على يقين أن هذه البوابة الثامنة تمثّل المعبر الروحي للثقافة والحضارة من وإلى قلب المدينة النابض بالحياة. فالثقافة والأفكار في حالة هجرة دائمة، ولا تستقرّ إلا في الموطن الذي يشرّع أمامها أبوابه بكل ترحاب.

منفى محبب

لمَ لا، وقد كانت دمشق المنفى المحبب لكل المطارَدين المشتغلين بمضامير السياسة والثقافة والفن في الوطن العربي، ليدخلوا مع أحلامهم المدينة من بوابتها الثامنة تلك، في الوقت الذي أُوصدت فيه أغلب البوابات في وجوههم. والأسماء الشاهدة على هذه الهجرة كثيرة وغنّية عن التعريف، وما مظفر النواب، ومحمد مهدي الجواهري والبياتي إلا خير الأمثلة على ذلك.

على العكس من أغلب الأقاليم العربية، لم تكن الحركة الثقافية جامدة في دمشق في النصف الأول من القرن الماضي، بل لقد كانت تتسم بالمرونة والليونة، وهذا ما أعطى حرية الحركة للتيار الثقافي ودفع بالنخب الثقافية والمتعلّمة للخروج من قوقعة الصالونات الأدبية والمكاتب الخاصة، والانخراط مع الناس في المقاهي العامة المتواجدة في أزقّة دمشق، يخوضون مجادلاتهم الفكرية، وسجالاتهم الشعرية بنكهة عصرية وحداثية، وبحرّية تامة في العلن.

بين هافانا والبرازيل

في الواقع، حملت هذه المقاهي على عاتقها في الأربعينات والخمسينات والستينات من القرن العشرين، توفير مناخ ملائم لاستقطاب الوجوه الثقافية والسياسية والفنية المتزاحمة على العاصمة السورية من جميع أنحاء البلاد، فما عادت وظيفتها تقتصر على تقديم المشروبات الساخنة واستقبال العامة للثرثرة واللهو، بل سعت وبقوّة لتكون الفضاء الرحب لتحرير الكلام من خلال الحوار واللقاء، وتعزيز الهوية الثقافية الجمعية لمدينة فاق عمرها الآلاف من السنين، حتى غدت هذه المقاهي علامة فارقة للدلالة على الحرية الثقافية في المجتمع السوري، وذلك بفضل احتشاد المهتمين والفاعلين في السياسة والفكر حول طاولاتها الخشبية، وهذا ما أتاح لهم دورا فاعلا في الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية على حدّ سواء.

ولعل أبرز تلك المقاهي التي تحفر في الذاكرة الشعبية الدمشقية، كان “مقهى الهافانا” المتواجد في شارع فيكتوريا المؤدي إلى محطة الحجاز، حيث اكتظت صالته بجمع مهمّ من صحافيي أهم الجرائد العربية، إلى جانب أعضاء مختلف الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية أمثال سليمان عواد وأكرم الحوراني وزكي الأرسوزي، في حين تزاحم على طاولات “مقهى البرازيل” لفيف من أهم رجالات الدولة من سياسيين وأدباء وفنانين، أمثال أدونيس ومحمد الماغوط ولؤي كيالي، مع وجود بعض الوجوه النسائية المهتمة بقضايا الشأن العام، أما “مقهى الروضة” الذي مازال قائما على كتف البرلمان السوري فقد شهد ظهور النواة الأساسية لدعم العمل الوطني والسياسي الشعبي.

ومع عبق رائحة القهوة، وعلى وقع الأغاني أو الموسيقى فقط، ألقى الكثير من الشعراء قصائدهم في الحب والحرية، وبثّ أغلب الرواد أحلامهم في التغيير على مسامع العامة، ونقل أهم الصحافيين والإعلاميين كل ما هو جديد عالميا في المجالات الأدبية والفلسفية، حتى لمع نجم دمشق كمدينة حاضنة لتعويض الفاقد الثقافي الناتج عن جملة الانكسارات التي شهدتها الشخصية العربية بعامة خلال مرحلة الهزائم المرّة، فكانت الشام ضالة كل متعطش، ومفتاح العبور لبوابة المستقبل والحضارة.

ثم مع نهاية القرن العشرين، شهدت المقاهي تبدّلا واضحا في الدور والمكانة، أسوة بمجمل التغيرات التي طرأت على الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية في سوريا. ورغم جميع المحاولات في سبيل إنعاشها، شهدت تلك المنتديات بداية الاحتضار، وخاصة مع دخول وسائل الإعلام الحديثة وثورة التكنولوجيا والاتصال. حيث فقدت المقاهي شغفها المتّقد، واقتصرت طاولاتها على بعض المثقفين، يقرؤون الجرائد ويتبادلون الأحاديث والأخبار في ما بينهم، فعادت إلى سابق عصرها، مكانا يهرب إليه كبار السن من هموم الحياة إلى بطء الزمن. وبالتأكيد، لم يخل الأمر من استمرار المحاولات الخجولة في تلك الفترة، حيث واظبت بعض المقاهي والمطاعم على استقبال الحوارات الفكرية، واحتضان بعض الفعاليات الثقافية من قراءات مسرحية وأدبية، إلى معارض تشكيلية، وانتهاء بالأمسيات الموسيقية والغنائية.

وعلى أي حال، فإن هذه الحركة الثقافية لم تكن جديدة على أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ، بل تنضوي في إطار صورة متصلة متكاملة، فلو رجعنا إلى بدايتها للبحث عن المنبع سنجد أن دمشق الشبيهة بنهرها الخالد “بردى”، تدفقت عبر الزمن لتجمع على ضفافها غوطة من أسماء ونتاج بعض أشهر رجالات الفكر والتاريخ والدين، تُشابه هي الأخرى غوطة دمشق وارفة الأشجار، والتي تغنّى بها الشعراء ووصفها الكثير من الرّحالة والباحثين فصارت معلما دمشقيا متفرّدا، ولقد وصفها المفكرّ محمد كرد علي بأنها “الأرض المطمئنة التي يرويها بردى وفروعه”.

عشر عجاف

لا تنتهي التفاصيل البديعة في صورتنا التي نطالعها هنا، فتحت السقوف الشهيرة لدمشق التاريخية تتجمع المحال القديمة الجديدة، لتشكلّ أسواق الشام العريقة المتخصصة وتعكس ثقافة شعبية ميّزت المدينة التي احتلت موقعا جغرافيا ساعدها على مزج الحضارات ونتاجها الاقتصادي كما المعرفي، ثم إضفاء لمسة خاصة فصار على سبيل المثال: البروكار الذي يقال بأن ثوب زفاف الملكة البريطانية إليزابيث الثانية قد صُنع منه، والدامسكو (نسبة إلى دمشق) والموزاييك، وسوق المهن اليدوية بزخارفه الجميل، وغيره من المنتجات والحرف الأصيلة رافدا ثقافيا لوجه المدينة الحضاري.

ولم يكن لكل ذلك العمران والتميّز أن يحصل ويرسخ دون أن يجد حاضنة إنسانية تجلّت في التآخي الديني والاجتماعي الذي عرفته الشام منذ دهور، فالجامع الأموي وحده دليل على تداخل وتآلف ربما لم تعرفهما الكثير من المدن قديما، ففي قلب الجامع ذي الأبواب الأربعة نجد كذلك أربعة محاريب مخصصة للمذاهب الإسلامية الأربعة، وإلى جانب ضريح يوحنا المعمدان ينتصب ضريح القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، وليس ما يمثلّه الجامع الأموي سوى صورة مصغرّة عن الحالة الدمشقية حيث تجاور الصليب والهلال وصارا رمزين لحضارة واحدة.

التجربة الدمشقية نموذج خاص لاجتماع المكان والزمان في بوتقة واحدة صاغت لكل ما حولها مقياساً يُحتذى به ومازالت

أما مقبرة دمشق الكبرى أو مقبرة “باب الصغير” الشهيرة، فهي ليست إلا دليلا آخر على عدد من مروا في هذي البقعة واستكانوا إليها، أخذوا منها وقدّموا لها، فمن الحافظ المعروف بابن عساكر إلى معاوية بن أبي سفيان الخليفة الأموي، مرورا برفات بلال الحبشي مؤذن الرسول، والفارابي والماوردي وأضرحة آل البيت، والعديد من الأسماء والشخصيات السياسية والفكرية التي لا يتسع المكان هنا لذكرها. وأين ما مشيت في دمشق ستجد شواهد من مروا وتركوا أثرا لا يُمحى في التاريخ، فالعالم المتصوف محيي الدين بن عربي عاش ومات ودفن على سفح قاسيون، الجبل الذي اتكأت عليه المدينة واستراحت فصارت وصار جزءا منها ومن حضارتها.

وبالأساس بدأت إشعاعات الثقافة والعلم من الكتاتيب والمدارس التي يذخر بها الشام وكانت تلقّن المعارف واللغة وعلوم الدين، تحوّل بعضها إلى معلم أثري يضاهي دوره التعليمي التاريخي، ونذكر منها المدرسة العادلية والظاهرية والشافعية والعزيزية وغيرها الكثير.

ولأن البوابة الثامنة عصيّة على الزمن كأخواتها السبع، تأبى دمشق إلا الانشغال بأفعالها الثقافية رغم أنف الظروف، إذ عادت هذه المدينة فشهدت منذ بداية الألفية الثانية جملة من المشاريع الهادفة إلى الحفاظ على التراث الثقافي المتنوع في البلاد، وتعزيز الانفتاح والتواصل لإرساء القيم الإيجابية للثقافة العربية والعالمية. ومن هنا جاء الإعلان عن دمشق عاصمة للثقافة العربية عام 2008، تتويجا لحالة التفاعل والحراك التي شهدتها هذه المدينة عبر سنوات طويلة، فكانت خطوة حقيقية لكسر العزلة المحيطة بها بالمعنى الحرفي، وتثبيت السلوك الثقافي كعادة يومية في صلب النسيج الاجتماعي.

واليوم.. ورغم العشر العجاف التي مرت على سوريا وعلى حاضرتها، لا يمكننا إنكار ما للمدن من تجارب وأفعال، خاصة في الصيرورة والتحول رغم الثبات، والتجربة الدمشقية خير برهان، إذ يمكن اعتبارها نموذجا خاصا لاجتماع المكان والزمان في بوتقة واحدة، فتصيغ لكل ما حولها مقياسا يُحتذى به، ومنارة تسير على خطاها ذاكرة الحضارة الإنسانية. كيف لا، وما زالت دمشق رغم كل ما أصابها من طعنات، تطرّز فصولها الحضارية على جبين العالمية، وترفد بحر الثقافة من معينها الخالص. وبرأيي، لا يمكن إغفال الحقيقة القائلة بأن كافة المدن، دون استثناء، لا بدّ وأن تمرّ بمرحلة دمشق حتى تبقى على قيد الاستمرارية.. وأظن أن من لم يتذوق طعم هذه المدينة الفاضلة والغاوية في الآن ذاته، ستبقى ذائقته الثقافية في طور العوز والحاجة إلى صبابة التوق والوجدان الدمشقي.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS