استراتيجية الربط السككي: آمال أردنية وبحث عن تكامل إقليمي
تقدّم هذه الورقة البحثية لمحة عامة عن مشروع شبكة السكك الحديدية الوطنية الذي تمّ الإعلان عنه ضمن برنامج أولويات الحكومة الاقتصادي (2021-2023)، موضحةً الأسس الاقتصادية التي يقوم عليها المشروع بالاستناد على مراجع نظرية حول قطاع السكك الحديدية. كما بحثت الورقة في تفاعل السكة الوطنية مع مشاريع الربط اللوجيستي العالمي عبر الشرق الأوسط، حيث جرى الإعلان عن مشاريع ضخمة في هذا الميدان، بعضها في إطار تكاملي والآخر تصادمي، مما يعني أن مسار السكة الوطنية لا يمكن عزله عن اضطرابات الوضعين: الإقليمي والدولي.
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٦/٠٩/٢٠٢١
الملخص التنفيذي
تتوقع الأوساط الرسمية في عمان أن يتم تحقيق تعافي اقتصادي قريب عبر ترجمة برنامج أولويات الحكومة (2021-2023) إلى واقع ملموس. ويتضمن هذا البرنامج مشروعاً ضخماً لتشييد شبكة السكك الحديدية الوطنية التي تعبر المملكة ضمن مسارين: جنوب-شمال وغرب-شرق، كما يتضمن المشروع إنشاء مرافق جمركية على امتداد مسار السكة في معان وعمان والمفرق تكون قادرة على استيعاب حركة الشحن المحلي والترانزيت العابر إلى دول الجوار.
حيث تحاول هذه الورقة تقديم تصور متكامل للمشروع الواعد من خلال محورين رئيسيين: الأول المعنون «نظرة عامة» تم فيه الاستناد إلى منشورات رسمية وإلى دليل صادر في سبتمبر 2017 عن البنك الدولي حول قطاع السكك الحديدية ككل. وفي هذا الجزء تم تسليط الضوء على حقائق ومعطيات نظرية وإسقاطها على المشروع الأردني، وهذه المعطيات هي: «التمويل والاستدامة المالية» و«استراتيجية النقل الوطني» و«توزيع الأدوار ما بين الحكومة والقطاع الخاص» و«طبيعة الاتفاقيات الدولية الناظمة لسير العمل بالمشروع».
أما المحور الثاني المعنون «مسارات متكاملة أم متصادمة؟» فقد تم استعرض المسارات المحتملة للربط السككي الإقليمي وكيف ستتفاعل الشبكة الوطنية مع هذه المسارات، حيث تشهد المنطقة إعلانات مكثفة عن خطط للنقل اللوجيستي الواسع النطاق، كالطريق البري بين سلطنة عُمان والمملكة العربية السعودية الذي يبدأ مساره من ميناء الدقم العماني، إذ سيغير هذا الممر الذي سيدخل حيّز العمل الكامل نهاية 2021 -وفق تصريحات رسمية- معادلة الشحن عبر الخليج العربي الراجحة حالياً لصالح الموانئ الإماراتية.
وناقش هذا الجزء أيضاً، الموقع المحتمل للموانئ الإسرائيلية في شبكات النقل الإقليمي، فالسكة الأردنية قد تتفرّع شرقاً نحو العراق وغرباً نحو إسرائيل، مما يعني احتمالية تقاطع دولتين في حالة عداء تقني.
ويُلقي التنافس الجيوستراتيجي الحاد بين أمريكا والصين بظلاله على هذه المشاريع المحتملة، فقد يمتد هذا التنافس إلى الظفر بموقع الشرق الأوسط المميز على خريطة الشحن العالمي. كما بينت الورقة الدوافع الأمريكية لدعم مسار من الربط الإقليمي يكون منافساً للمشروع الصيني «طريق الحرير» وبشكل يزاحم النفوذ الإيراني في المنطقة ويسعى الى تحييده.
كل ذلك يتطلب من الدولة الأردنية تعزيز حضورها لضمان ألا يتم استثناء الجغرافيا الأردنية من الروابط الشرق أوسطية الجديدة الآخذة في التشكل، ولا شك بأن عمان تمتلك أوراق قوة يمكن توظيفها في سبيل هذه الغاية، أبرزها: متانة الاستقرار الداخلي، وعلاقات عمان الوطيدة مع واشنطن، وقرب حلحلة الصراعات الإقليمية بما يتفق مع الرؤية الأردنية، وتقدير بكين للدور الأردني المنسجم مع مبادئ عدم التدخل واحترام السيادة في العلاقات الدولية.
وتختتم الورقة بالدعوة إلى الاستعداد أردنياً لمختلف السيناريوهات الطارئة التي قد تستجد أثناء عمليات الإنشاء أو عند مراحل التشغيل المختلفة، كانسحاب أحد المستثمرين المفاجئ من تعهداته بتمويل المشروع، أو المشاكل الفنية اللوجستية أو الأمنية، كما دعت الورقة إلى تأسيس هيئة عليا تضم مندوبين عن الدول المعنية يتمتعون بخبرة تقنية كافية وإسناد سياسي من المستوى القيادي للاستجابة لما قد يستجد من عقبات. فنجاح المشروع الأردني رهن بقدرته على التشبيك الإقليمي مع دول مستقرة أمنياً وسياسياً.
مقدمة
أعلنت الحكومة الأردنية أواخر أغسطس 2021 برنامج أولوياتها الاقتصادي 2021-2023 بقيمة إجمالية تقترب من 6 مليار دولار تُمول بإنفاق رأسمالي حكومي بقيمة 677 مليون دولار وبالشراكة مع القطاع الخاص بقيمة 5.3 مليار دولار. ويأتي مشروع سكة الحديد الوطنية كأحد أضخم المشاريع المقترحة الذي تبلغ مساهمة القطاع الخاص فيه 2.2 مليار دولار، في حين تتولى الحكومة كل ما يلزم لاستملاك الأراضي المخصصة لمسار ومرافق السكة.
وهذا المشروع اُنجزت الدراسات الحكومية الأولية الخاصة به على مراحل قبل عام 2010، ولكن الترويج التجاري والتوجه الفعلي لبدء العمل بالمشروع عُلّق نتيجةَ الاضطرابات السياسية التي اندلعت على نطاق إقليمي عام 2011، مما اضطر الدولة للتركيز على احتواء التبعات الأمنية والاقتصادية لهذه الاضطرابات، ولأن جوهر المشروع - كما سيتم تفصيل ذلك في بند مسارات متكاملة أم متصادمة - يتمثل في الربط الإقليمي العابر للحدود.
ورغم التغطية الإعلامية الرسمية لبرنامج الأولويات الاقتصادي، إلا أن أياً من المشاريع المقترحة لم يحظ باهتمام إعلامي معمّق، كما أن الرأي العام بالكاد تجاهل الإعلان الحكومي، ولربما يعزى السبب إلى تراجع الثقة الشعبية بقدرة الحكومة على إدارة مشاريع ضخمة في الوقت المحدد كمشروع الباص سريع التردد في عمان أو حتى تعثر بعض المشاريع مثل أبراج بوابة الأردن المعروفة بأسم ابراج السادس.
ولذلك تدعو الضرورة السياسية إلى تغيير هذه الصورة النمطية في تصورات الشارع الأردني إزاء قدرة حكومته على المضي قدماً في مسيرة التحديث والتنمية، وهذا التغيير لا يتأتى من خلال الوعود وإنما عبر إنجاز المشاريع المعلنة، مما يترتب عليه رفع منسوب الثقة وبالتالي زيادة الرصيد السياسي للدولة.
وهذه الورقة حول مشروع سكة الحديد الوطني تنقسم إلى جزأين رئيسيين، الأول «نظرة عامة» على قطاع السكك الحديدية وعلى المشروع بصورة خاصة، وذلك بالاستناد على:
1. البيانات الصادرة عن وزارة النقل وسلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة
2. برنامج أولويات عمل الحكومة الاقتصادي (2021-2023) المدرج على موقع رئاسة الوزراء الإلكتروني
3. دليل إصلاح السكك الحديدية/ الطبعة الثانية الصادرة في سبتمبر 2017، وهذا المؤلف المكون من 400 صفحة والصادر عن البنك الدولي يعتبر مادة خام أولية لما يتعلق بتكاليف وإيرادات السكك الحديدية خلال مراحل التأسيس وحتى التشغيل، كما يسلط الدليل الضوء على دور الحكومة والقطاع الخاص وكيف يجب أن تتم إدارته بالشراكة ما بين القطاعين وفق معايير واضحة وحوكمة رشيدة تراعي الصالح العام والأرباح المتأتية.
أما الجزء الثاني المعنون «مسارات متكاملة أم متصادمة؟» فيبحث في المشاريع الإقليمية والدولية المعنية بالربط اللوجيستي عبر المنطقة، وذلك بالاستناد على رصد ما تم الإعلان عنه من مشاريع مقترحة وتحليل الترابط والتنافس بين المسارات المتعددة التي يُفترض أن تسلكها هذه المشاريع.
وتحاول هذه الورقة الإجابة على السؤالين التاليين:
1. ما هي الأسس الاقتصادية التي قام عليها المشروع؟
2. كيف ستتفاعل السكة مع تشعباتها الإقليمية؟ وما هو مسارها الإقليمي المتوقع؟
نظرة عامة
يبلغ مجمل طول شبكة سكة الحديد الوطنية 897 كم وتتكون من محورين رئيسيين: الأول جنوب – شمال بطول 509 كم وبكلفة تقديرية 4.4 مليار دولار، وهذا المحور سيقطع المملكة من العقبة وحتى الحدود مع سوريا. أما المحور الثاني شرق – غرب فهو تفريعة من الزرقاء نحو الحدود العراقية والسعودية بطول 380 كم وبكلفة تقديرية 530 مليون دولار. ومن الضروري الإشارة إلى أن هذه الكلف التقديرية وردت في بيانات وزارة النقل لعام 2011، وهذه الأرقام مرشحة للتعديل أو أنها عُدلت بالفعل.
وتعد العقبة المدخل البحري الرئيسي الذي ستنطلق منه/إليه عمليات الشحن المحلي، مما يجعل من المدينة الساحلية نقطة مركزية ضمن المشروع. وبالفعل ثمة تقدير عالي لمكانة العقبة، حيث يجري العمل بصورة حثيثة على مشروع سكة حديد العقبة بإشراف سلطة منطقة العقبة الاقتصادية التي تتولى تمويل المشروع البالغة كلفته 1 مليار دولار مناصفةً مع صندوق التنمية السعودي.
وتم الانتهاء من دراسات مشروع سكة العقبة في أغسطس 2020، وهو عبارة عن مخطط لتبادل الصادرات والواردات من موانئ العقبة إلى ميناء معان البري، وتشييد وصلتين تربط ميناء حاويات العقبة «ACT» والمنطقة الجنوبية من منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة (التي تشمل على موانئ رئيسية مثل ميناء الفوسفات و ميناء العقبة الجديد وكذلك منطقة الصناعية) مع سكة الحديد الرئيسية من أجل تعزيز كفاءة نقل الفوسفات والبضائع العامة والسائلة السائبة والأسمدة والسلع الأخرى. وتبلغ المسافة الإجمالية لسكة الحديد من ميناء العقبة البحري إلى ميناء معان البري قرابة 200 كم والتي تعد ركيزة في مشروع سكة الحديد الوطنية والإقليمية أيضاً.
كما يتضمن مشروع سكة الحديد الوطني إنشاء ميناءين بريين في المفرق وعمان، ووفقاً لتصريحات رسمية سينتهي العمل في ميناء الماضونة في عمان نهايةَ العام الحالي ويتكون من جزأين لوجستي وجمركي وسيُدار من قبل دائرة الجمارك.
أما بالنسبة لمركز جمرك المفرق، فليس واضحاً ما إذا كان سيتم توسعة المركز الحالي أو إقامة مركز جديد يستوعب دوره في الشحن لدور الجوار، كما لم يتم التوصل إلى إجابات حاسمة حول قيام الحكومة بدورها في استملاك الأراضي المخصصة للمشروع، مع التأكيد على أن بعض التصريحات أكدت الشروع باستملاك أراضي ناهيك عن تخصيص مبالغ مالية في موازنة 2022 لهذه العملية.
وبناءً على ما سبق، يمكن تقديم مجموعة من المعطيات والسياسات التي قد تساهم في تحفيز المشروع وتجاوزه للتحديات بما يشمل:
1 التمويل والاستدامة المالية
أعلن السفير السعودي في عمان، نايف بن بندر السديري، في مقابلة تلفزيونية مع قناة المملكة في أكتوبر 2020 عن «أضخم مشروع استثماري في تاريخ العلاقات الأردنية السعودية» قاصدا سكة الحديد الوطني، الذي سيساهم صندوق استثماري مشترك في تمويله إلى جانب مشاريع أخرى، حيث يبلغ رأس مال الصندوق قرابة 3 مليار دولار، تمتلك السعودية 90٪ منه، في حين تملك بنوك أردنية الـ 10٪ المتبقية.
ووقت المقابلة لم يكن واضحاً كيف ستشارك بنوك أردنية في هذا الصندوق، إلا أنه وفي أثناء كتابة هذه الورقة في 8 سبتمبر 2021، تم الإعلان عن انعقاد الاجتماع الأول لـ«الهيئة العامة لشركة إدارة صندوق رأس المال والاستثمار الأردني» وهي أكبر شركة تؤسس في الأردن برأس مال يبلغ 387.8 مليون دولار ومملوكة بالكامل لبنوك أردنية هي: البنك العربي وبنك الإسكان والبنك الإسلامي الأردني وبنك الاستثمار العربي الأردني والبنك الأهلي الأردني والبنك الأردني الكويتي.
ويتضح أن الخزينة لن تتكبد ديونا إضافية جراء المشروع، مما يعطي أفضلية للمشروع من ناحية استدامته، فوفقا لدليل البنك الدولي حول السكك الحديدية «يحقق خط السكة الحديدية الاستدامة المالية عندما يكون لديه موارد كافية على المدى الطويل لتغطية التكاليف التشغيلية والاستثمارات اللازمة، وتلبية خدمة الدين».
ومن منظور استثماري، ونظراً للكلفة العالية لإنشاء المشروع، فإن الكيانات المساهمة في تمويله من حقها أن تبحث عن مردود مالي يغطي كلفته على المدى الطويل ويحقق عائدا من الاستثمار. ووفقاً للأرقام الحكومية فإن هذا العائد يتراوح ما بين (10-15)٪ على امتداد فترة الامتياز التي يُفترض أن تكون طويلة وهي عادةً لا تقل عن 15 سنة كي يمتلك المستثمر «اليقين» بماهية مستقبل وضعه القانوني.
ووفقاً لتقديرات وزارة النقل فإن حجم الإيرادات المتوقعة على المدى المتوسط -عام 2030 - قد تبلغ 738 مليون دولار، بينما ستزداد هذه القيمة على المدى البعيد -عام 2040 - لتبلغ 1.04 مليار دولار. أما عن مجموع الكميات المنقولة فتقدر بـ(14300، 20200) مليون طن متري على الترتيب.
وهذه الأرقام لم يتم الإعلان عن تحديثها منذ نشرها عام 2011، ونظراً للعوائق السياسية والأمنية والاقتصادية التي استجدت منذ ذلك العام قد تنخفض هذه التقديرات، مما يضع شكوكاً حول جدوى الاستثمار في مشروع يعد أحد أنماط اقتصاديات وفورات الكثافة، وهو نمط اقتصادي يتناقص معدل تكلفته على المدى الطويل مع ارتفاع الاستخدام، فكلما زادت حركة المرور كانت الوفورات أفضل من ناحية الإيرادات وإدامة البنية التحتية.
تجدر الإشارة إلى أن السكك الحديدية التي تنقل الأفراد تكون مجدية اقتصادياً أكثر من تلك المخصصة للبضائع، لأن النقل السككي للأفراد مستدام أكثر فهو لا يتأثر بالعلاقة مع كيانات قد تتغير توجهاتها وتوقف الشحن السككي لبضائعها، كما أن نقل الأفراد لا يسبب ضغطاً على البنية التحتية مثل نقل البضائع، يضاف إلى ذلك أن سهولة تنقل الأفراد عبر السكك ينعكس ايجاباً على الواقع التنموي على امتداد مسار خط الحديد، مما يساهم في نقل التنمية وتوسيع المناطق الحضرية في الأطراف التي قد تكون نائية.
وعلى الأغلب سيقتصر مشروع سكة الحديد الوطنية في هذه المرحلة على شحن البضائع، ولربما في الحالة الأردنية من الأفضل الاكتفاء بذلك، لأن تنقل الأفراد من الدول المجاورة عبر سكة الحديد سيترتب عليه خسارة جزء كبير من السياحة العارضة، وستقل فترة مكوث السائح في الأردن مما يؤدي حكماً إلى انخفاض معدل إنفاق السائح داخل البلاد.
2 استراتيجية النقل الوطني
تشهد الأردن طفرة في مشاريع النقل، كالانتهاء من صيانة جذرية للطريق الدولي الذي يربط الجنوب مع العاصمة، وافتتاح جسر مرج الحمام الذي يربط جنوب عمان مع شرقها، وقرب التشغيل الكامل لمشروع الباص سريع التردد الذي يربط الزرقاء مع عمان، كما تم إنشاء نقاط تجمع رئيسية للحافلات مخصصة للتنقل بين المحافظات.
ويتضح من تتبع مسار سكة الحديد أنها ستتكامل مع تقاطعات حيوية على امتداد شبكة الطرق البرية في المملكة، مما سيزيد من قدرة الطواقم التشغيلية على الوصول إلى مواقع عمل السكة، وهو ما يؤدي إلى توسيع قاعدة العمالة خارج المراكز الحضرية التقليدية.
وقبل تشغيل المشروع، ينبغي دراسة وضع فئة مهمة من العاملين في قطاع النقل بالشاحنات، لأن الشحن السككي قد يلغي تدريجياً الحاجة إلى النقل عبر الشاحنات، نظراً للمزايا الاقتصادية التي توفرها سكك الحديد التي تتيح تكثيف نقل البضائع عبر طريق ثابت، فوفقاً لدليل البنك الدولي «يستهلك نقل البضائع بالسكك الحديدية طاقة أقل بمقدار الثلثين لكل طن-كم مقارنة بالنقل البري في الولايات المتحدة». ويبين المخطط البياني التالي أسعار النقل بالشاحنات مقابل السكك الحديدية في الولايات المتحدة لعام 2008.
ولذلك هنالك خشية من تأثير سكة الحديد الوطنية على المصالح المستقرة لعدد كبير من الأردنيين الذي يعتاشون عبر قطاع النقل بالشاحنات، كما أن هنالك مخاوف من انخفاض عوائد الترانزيت للشاحنات العابرة للأراضي الأردنية. وقد تكون هذه الانتقادات على قلتها منطقية، ولكن خسارة الدولة ستكون مضاعفة إذا تم بناء مسارات شحن إقليمي تستثني الأردن، فتقنياً إتمام عملية التفريغ والمناولة على الحدود من عربات قطار الشحن نحو الشاحنات يتطلب وقتاً وجهداً أكبر، مما يجعل قطاع الشحن ككل في الأردن طارد للتجارة البينية.
وفي هذا الصدد، ثمة ضرورة لإعادة تقييم ميناء العقبة، وما إذا كان قادراً على تلبية الطلب الإضافي للشحن البحري نتيجة تشغيل سكة الربط الإقليمي، وإجراء ما يلزم من دراسات في هذا الشأن. وبحسب سلطة منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة، تبلغ الطاقة الاستيعابية القصوى لميناء الحاويات 2 مليون وحدة مكافئة، ولا يُتوقع أن تلبي هذه القدرة الطلب الإضافي المرتبط بالنطاق الواسع لتشعبات الشحن السككي خارج الأردن.
3 توزيع الأدوار ما بين الحكومة والقطاع الخاص
نظراً للتكلفة العالية للمشروع ولما تتضمنه إدارته من عمليات؛ فإنه قد يتحول إلى مثال واقعي لنجاح العلاقة بين القطاعين الحكومي والخاص، حيث يمكن لتكامل الأدوار والمسؤوليات أن يسهم في تذليل الصعاب وإنجاز المخطط ضمن الوقت المحدد.
ولم يعلن حتى كتابة هذه السطور عن الآليات والوسائل الناظمة لعلاقة الحكومة والمستثمرين في هذا المشروع، سواء في مرحلة التصميم والإنشاء، أو في مرحلة التشغيل وبدء العمل الفعلي. وقد أكد دليل البنك الدولي على ضرورة التفاهم الواعي بين مختلف الأطراف المعنية بكل مراحل وعمليات السكك الحديدية مناقشاً الهياكل الإدارية الثلاث التي تشيع في كيانات النقل السككي، وهي:
1. مؤسسة مملوكة للدولة تعمل بموجب قانون السكك الحديدية أو قانون الشركات المملوكة للدولة.
2. شركة مملوكة للدولة تعمل بموجب قانون الشركات.
3. شركة مملوكة ملكية خاصة تعمل بموجب قانون الشركات وتُمنح حقوق امتياز طويلة الأمد.
ووفقاً لمناقشة الميزات والسلبيات في كل نمط، يتضح أن السكك الحديدية تدار بفعالية عندما تعمل كمؤسسة تجارية تراعي تنافسية الأسواق وتسعى إلى رفع مستوى خدماتها، فعادةً تطبق المؤسسات التجارية معايير الحوكمة الفعالة، كالشفافية في اتخاذ القرار، والرقابة والمساءلة، وعدم تسييس الوظائف العليا.
بالطبع ثمة بعد اجتماعي اقتصادي للنقل السككي لا سيما في الدول التي اعتاد أفرادها على استخدامها، ولذلك عادةً ما تتفق الحكومات مع الجهة المشغلة على السعر الأعلى لحركة الافراد والبضائع، وقد تنشأ اشكالات ما بين الطرفين بسبب اختلاف الأهداف والمنظور، فمثلاً قد تسعى الحكومات إلى منح أجرة مخفضة لبعض الشرائح (كالطلاب والموظفين الحكوميين والعسكريين) ولشحن بعض المواد التي تعود بالإيرادات على خزينة الدولة، كالبوتاس والفوسفات والإسمنت، وقد تصر الحكومة على استمرار خطوط فرعية نائية لا تغطي إيراداتها الكلف التشغيلية.
ولذلك يجب الموازنة ما بين كون السكة الحديدية مشروعاً وطنياً يرتبط بالصالح العام من جهة، وما بين كونها استثمار تجاري يرتبط بتحقيق عائد ربحي من جهة أخرى. ولا يمكن توقع نجاح المشروع إن تغول طرف على الآخر وأهمل تشاركية العلاقة في إطار تقدير المصلحة الوطنية.
ويعبر مصطلح «اخفاق السوق» عن الموقف الذي تختلف فيه المصلحة العامة اختلافاً جوهرياً عن المصالح التجارية لمقدمي الخدمات وهي في هذه الحالة الشركات الخاصة المشغلة لخطوط الشحن والتي من المبكر تسميتها أو تحديد طبيعة علاقتها التعاقدية مع الحكومة الأردنية. وعلى الأغلب سيتم تطبيق الفصل الرأسي في منظومة السكك، بحيث تمتلك شركة/مؤسسة حكومية البنية التحتية والمرافق العامة، في حين تتولى شركات خاصة تشغيل القطارات وفق حق امتياز طويل المدة. ويُرجح اعتماد نظام «بناء، تشغيل، نقل ملكية – B.O.T» في بعض مفاصل المشروع.
ويوضح الشكل التالي الأدوار الرئيسية للحكومة في قطاع النقل التي ينصح دليل البنك الدولي أن تكون منظِّم وسلطة عليا وليس طرف منخرط في العمليات التجارية التشغيلية، ولربما تنبع هذه النصيحة من القاعدة الليبرالية التقليدية «دع السوق ينظم نفسه بنفسه» التي تدعو إلى تقليص التدخلات الحكومية إلى حدود قصوى مع التأكيد على دور الحكومة في الحالات الطارئة وفي تنسيق علاقة السكة مع تشعباتها في الدول المجاورة.
4 طبيعة الاتفاقيات الدولية الناظمة لسير العمل بالمشروع.
بغض النظر عن المسار الإقليمي الأوسع الذي ستسلكه السكة، فإن هنالك ضرورة لتجنب السياسات الداخلية المعرقلة لتطوير مسارات السكك الحديدية الدولية، والتي تؤدي إلى تفاقم مشكلات عدة، فأولاً ينتج عن غياب إدارة ترانزيت مشتركة فعالة اضطرابات على المسارات والمواعيد التي يسلكها القطار عند دخوله حدود دولة ما، فالنمط التشغيلي العام هو قيام خطوط السكك الحديدية المحلية بتسيير القطار حتى حدود الدولة المجاورة، ليتم لاحقاً توزيعه حسب المتاح. وعادةً ما يميل المسؤولون إلى إعطاء الأولوية للقطارات المحلية على الدولية، مما يقودنا إلى المشكلة الثانية في التكدس والانتظار على الحدود، والتي قد تنشأ أيضاً عن الهامش الكبير بين أوقات الوصول الفعلية والمجدولة.
أما ثالثاً، قد تفرض بعض الدول إجراءات تقنية غير مبررة في تعاملها مع القطارات القادمة، كالفحص الميكانيكي المبالغ به، واستبعاد بعض العربات لعدم مطابقتها شروط السلامة العامة «المحلية»، واشتراط تغيير القاطرة والسائق عند كل معبر حدودي.
بينما تتمثل المشكلة الرابعة في الإجراءات الجمركية والحدودية، وخاصة عندما تكون عاملاً في الحد من انسيابية الشحن السككي نظراً لتشدد الإجراءات دون داعٍ أو تباينها.
وتعد تجربة مسارات السكك بين دول الاتحاد الأوروبي مثالاً ناجزاً للتفاهم التقني بين الدول في هذا المجال.
بعد استعراض هذه المشكلات، تبرز أهمية توحيد المعايير «Standardization» بين الدول التي ستمر عبرها السكة في مسارها الإقليمي، بما يضمن التدفق السلس للمعلومات في الوقت المباشر وبما يحول دون تسييس الإجراءات التشغيلية لهذا المسار من التعاون عبر دول الإقليم.
مسارات متكاملة أم متصادمة؟
وفقا للخريطة الرسمية لمشروع سكة الحديد الوطنية، سينتهي مسارها الشمالي نحو الأراضي السورية، ولأن أحد أهداف المشروع تتمثل في الشحن إلى أوروبا ربما يوجد توجه لفتح مسارات شحن تعبر سوريا من جنوبها نحو حدودها الشمالية مع تركيا ومنها إلى أوروبا. وقد يكون هذا التوجه منطقياً قبل عام 2011 فمن الصعب جداً، لأسباب أمنية وسياسية وفنية واقتصادية، في هذه المرحلة التفكير بترانزيت بضائع مكثف بين سوريا وتركيا، وحتى لو تحسن مستوى التنسيق بين هاتين الدولتين فإن سوريا لن تستطيع في السنوات القادمة على الأقل تشييد مسار سككي نحو الحدود التركية، لأن المطلوب من الدولة السورية في المجال الاقتصادي توجيه الطاقات نحو إعمار البنية التحتية الأساسية وليس بناء خط سككي يبلغ طوله قرابة 500 كم.
ولا يتوقع أن يُكتفى بكون المشروع يربط بين الأردن والسعودية والعراق؛ لأنه في هذه الحالة سيكون منخفضا في جدواه الاقتصادية وعرضة للتأثر بالمتغيرات السياسية الإقليمية القادمة من العراق. ولذلك هناك مصداقية للطرح القائل أن سكة الحديد ستصل إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط الخاضعة للسيادة الإسرائيلية، وهذا الطرح تردد بكثافة في النصف الثاني من عمر إدارة ترامب تزامناً مع الحديث عن إقامة علاقات دبلوماسية بين دول خليجية وإسرائيل، وقد تضمن ملف «الازدهار نحو السلام» الذي نُشر تزامناً مع الإعلان خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط المعروفة بـ«صفقة القرن» مشروعاً للربط السككي بين دول الخليج والسواحل الإسرائيلية عبر الأردن.
وقبل هذا الإعلان كشف وزير النقل الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، في أبريل 2017 عن «سكة حديدية للسلام الإقليمي» في سياق الترويج للعائد الاقتصادي المحتمل من إقامة علاقات مع دول عربية وخليجية. وأعاد كاتس التأكيد على هذا الأمر أثناء مرافقته رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في زيارته إلى عُمان في أكتوبر 2018، مقدّراً حجم التجارة المحتمل عبر الشبكة عام 2030 بـ250 مليار دولار.
بكل تأكيد تغير المزاج الإقليمي حيال إسرائيل بقدوم إدارة أمريكية لا توصف بالمنحازة تماماً في تعاطيها مع إسرائيل وإشكالاتها تجاه فلسطين، فمثلاً لم يعد الحديث عن أن إقامة علاقات دبلوماسية بين تل أبيب والرياض هي مسألة وقت فقط، لا بل صدر مرسوم وزاري سعودي في يونيو 2021 استبعد بموجبه الامتيازات الجمركية الممنوحة لواردات دول مجلس التعاون الخليجية التي تستخدم مدخلات انتاج إسرائيلية أو من شركات مملوكة جزئياً أو كلياً لشركات إسرائيلية.
بعد هذا القرار بشهر، قام سلطان عُمان، هيثم بن طارق، بزيارة رسمية إلى السعودية، تضمنت التوافق على فتح معبر بري مباشر بين الدولتين وتشغيل طريق بري – شبه منجز – يختصر 800 كم من المسافة بين البلدين لأنه يلغي الحاجة لمرور حركة الأفراد والسلع من عُمان إلى السعودية عبر الأمارات.
بالإضافة إلى هذا الطريق البري، سيكون ميناء الدقم في إطاره الجديد الذي يتوقع تشغيله نهاية عام 2021 ما قد يشكل منافساً للموانئ الإماراتية، فموقعه البعيد نسبياً عن مضيق هرمز يعطيه ميزة الملاحة الآمنة. جدير بالذكر أن ميناء جبل علي، أكبر ميناء في الشرق الأوسط، يرتبط بمنطقة صناعية حرة ستكون منتجاتها مستثناة من الإعفاءات الجمركية عند توريدها إلى السعودية، لأن المرسوم الوزاري سابق الذكر استبعد سلع كل المناطق الحرة من الامتيازات الجمركية الممنوحة لدول مجلس التعاون الخليجي.
إذاً بالفعل ثمة حراك يتمحور حول الربط بين الخليج العربي وسواحل البحر الأبيض المتوسط، لكن ما الجديد الذي يمكن أن ينشأ عن حلقة التعاون والتنافس اللوجستي في الإقليم؟
لسكة الحديد الوطنية الأردنية تفريعة نحو الحدود العراقية، وإذا ما كانت هذه السكة تصل فعلاً إلى السواحل الإسرائيلية فإن ذلك سيسفر عن ربط العراق بإسرائيل رغم أن الدولتين لا تقيمان أي نوع من أنواع العلاقات في المرحلة الراهنة، ولا يُتوقع إقامة علاقات مباشرة ما لم يحدث انقلاب إقليمي تُغير معه طهران موقفها الذي يوصف بالعدائي تجاه إسرائيل والرافض لإقامة حلفائها أي علاقات مع تل أبيب.
ويظهر رصد مشاريع النقل في العراق وجود استراتيجية لتعزيز المكانة الجيوسياسية للبلاد، ففي أبريل 2021 وضع رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، حجر الأساس لبدء المرحلة الأولى في ميناء الفاو الكبير بكلفة 2.6 مليار دولار وبقدرة استيعابية تصل إلى 3 مليون حاوية سنوياً، وسينطلق من الميناء الواقع جنوباً سكة حديد تقطع البلاد حتى الحدود الشمالية مع تركيا وبطول يصل إلى 1211 كم.
ووفقاً لتقديرات خبراء مختصين نقل عنهم تقرير لـ«اندبندنت عربية» نُشر في يونيو 2021، سيقلص المشروعان -الميناء وسكة الحديد- وقت وصول البضائع القادمة من شرق آسيا إلى أوروبا إلى 25 يوم، وسيحولان حوض الخليج العربي إلى ممر منافس لقناة السويس. ولا يمكن لمشاريع النقل العابرة للقارات أن تكون معزولة عن حسابات النفوذ الدولي، وإذا ما تم الجزم بوجود دعم أمريكي جاد لبعض من هذه المشاريع فإن ذلك يطرح تساؤلات عن الدوافع السياسية وراء هذا الدعم.
وقد يكون أحد هذه الدوافع متصلاً بإبطال مفعول اتفاقية الـ25 عاما الموقعة بين الصين وإيران والتي وُقعت في مارس 2021، وتتضمن التعاون الاستراتيجي في مجالات حيوية، كالتكنولوجيا والطاقة والبنية التحتية، ناهيك عن جعل إيران محور ارتكاز للمشروع الصيني «الحزام والطريق» تنطلق منها شبكة برية ضخمة للشحن نحو أوروبا مروراً بتركيا ونحو سواحل البحر الأبيض المتوسط مروراً بالعراق وسوريا.
وهذا المشروع يقلق دوائر صنع القرار في واشنطن، لأنه يعكس حقبة جديدة من التمدد الصيني في الاقتصاد العالمي، حيث التمدد الناعم سيتم تحويله إلى نفوذ سياسي مدعوماً بأدوات صلبة تؤمن له الحماية. ولذلك ترى واشنطن ضرورة مزاحمة بكين بنفس الأدوات «الناعمة» التي توظفها بهدوء وثبات في سبيل توجهها نحو الزعامة العالمية.
وانطلاقاً من هذه التصورات، لم يكن مفاجئاً قرب إقرار الكونغرس لخطة وصفت بأنها «تاريخية» لتحسين البنية التحتية (طرق وشبكات المياه وانترنت الجيل الخامس) والخدمات العامة كالصحة والتعليم. وستصل القيمة الإجمالية لهذه الخطة التي ستقر على مراحل إلى 4 ترليون دولار، وهي تندرج في سياق سعي الإدارة الأمريكية لتبني مقاربة جديدة مع الصين عبر تحسين الواقع المحلي حتى يتسنى للسياسة الخارجية الأمريكية الارتكاز على أرضية داخلية أكثر صلابة.
ولا تخفي الإدارة الأمريكية هذه الأهداف، فقد صرّح الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في أبريل 2021 أن الخطة ستتيح لأمريكا الفوز في المنافسة العالمية مع الصين. وقد يتواكب مع هذا المسار وجود توجه لدعم استثمارات خارجية تناكف الصين خصوصاً على امتداد «طريق الحرير». فمن الممكن توفّر دعم أمريكي لبعض مسارات الشحن في الشرق الأوسط، كمشروع سكة الحديد الأردنية وتفريعاتها المحتملة شرقاً وغرباً، وميناء الفاو والقطار المرتبط به نحو تركيا شمالاً والأردن غرباً.
ولا تقتصر الأهداف السياسية الأمريكية من دعم هذه المشاريع على عرقلة التمدد الصيني، وإنما تمتد أيضاً لتطال النفوذ الإيراني في العراق وسوريا ولبنان. فبالنسبة للعراق تتخوف طهران من أن تعزز المشاريع سابقة الذكر من استقلالية قطاع الشحن في العراق بما يتيح للبلاد التحرر من السلع القادمة من إيران، كما أن الميناء والسكة ستقلل من أهمية الجزء المار في إيران من طريق الحرير.
وبالنسبة لسوريا ولبنان، فمن الواضح أن الإدارة الأمريكية الحالية خفضت من القيود التي تحول دون تعامل دول عربية معهما، فقد مُنحت الأردن ودول خليجية استثناءات من التعرض لعقوبات بموجب قانون قيصر الذي يحظر أي تواصل اقتصادي مع الحكومة السورية، وذلك يظهر من الاتفاق نظرياً على تشغيل المعبر الحدودي بين الأردن وسوريا.
وتزامن التشغيل الرسمي للمعبر الحدوي والذي تعثر بسبب اضطرابات أمنية في مدينة درعا الحدودية، مع الاتفاق على تزويد لبنان بالطاقة الكهربائية من الأردن عبر خط يمر بسوريا، حيث جرى في عمان في سبتمبر 2021 اجتماع رباعي ضم وزراء الطاقة في الأردن ومصر ولبنان وسوريا لبحث الخطط الفنية والجداول الزمنية لتزويد لبنان بالغاز المصري و/أو الكهرباء الأردنية، وذلك عبر خط الغاز العربي والربط الكهربائي بين سوريا والأردن الذي يمتلك طاقة كهربائية فائضة عن حاجته. وقد أيدت السفارة الأمريكية في لبنان هذا الدعم في وقتٍ أعلن فيه الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، أن ناقلات نفط في طريقها من إيران إلى لبنان.
وقد تعززت القناعة لدى بعض العواصم الغربية والعربية أن أسباب التمدد الإقليمي الإيراني لا تقتصر على توظيفها لفصائل مسلحة تخدم رؤيتها وإنما أيضاً لعدم وجود استراتيجية عربية مشتركة تعاكس النهج الإيراني، ولا تتطلب مثل هكذا استراتيجية تشكيل كيانات مسلحة مناكفة لتلك المدعومة إيرانياً، ذلك أن الوضع الاقتصادي المنهار في الدول الحليفة لإيران، كسوريا ولبنان، يدفعها للبحث عن «طوق نجاة» اقتصادي تستطيع دول عربية لا تنتمي للمحور الإيراني توفيره.
ويمكن في مرحلة لاحقة من الاستقرار السياسي النسبي بحث انضمام سوريا ولبنان إلى الشراكة الثلاثية بين الأردن ومصر والعراق وليتم التشبيك بين رؤيتين تنمويتين «الربط السككي والشراكة الثلاثية» يسعيان إلى تخفيف حدة الاستقطاب السياسي وتفعيل التكامل الإقليمي البنّاء.
وهنا تبرز تساؤلات حول أوراق القوة التي تحوزها عمان في هذا التنافس الكامن لرسم ملامح الروابط الشرق أوسطية الجديدة، ولربما أبرز هذه الأوراق تظهر في متانة الاستقرار الداخلي وقدرة الدولة الأردنية بكافة أركانها على الصمود وتجاوز التحديات التي عصفت في المنطقة منذ بدء الحرب على الإرهاب مروراً بما يُطلق عليه «الربيع العربي» وليس انتهاءً بأزمات عمان التي توالدت في عهد ترامب على خلفية القضية الفلسطينية.
وهنا تأتي ثاني أوراق عمان في هذه المرحلة، فقد أكدت الزيارة الملكية إلى واشنطن في يوليو 2021 عودة التنسيق الأردني الأمريكي إلى سابق عهده، فمكامن النزاع السابق بين القيادة الأردنية والبيت الأبيض تم تجاوزها. وتردد في أوساط صحفية شبه رسمية أن الملك عبدالله الثاني طلب خلال لقائه بايدن استثناءً أمريكياً للتعامل الاقتصادي مع سوريا دون التعرض لعقوبات قيصر، كما نصح جلالته أن تدعم واشنطن الربطَ الكهربائي مع لبنان لأسباب إنسانية وسياسية.
أما ثالث أوراق القوة فهي في بوادر خروج السياسة الإقليمية من نسق «سياسة المحاور» واعتماد «الحوار» وسيلة لتقريب المواقف حول الصراعات في المنطقة. وهذا الحوار يتفق مع ما كانت تدعو له الدبلوماسية الأردنية منذ سنوات، مما يعني أن إعادة التموضع الجديد نسبياً تتفق مع الموقف الأردني المسبق الهادف إلى الابتعاد عن التخندق والتحشيد السياسي والعسكري والاقتصادي في «حرب الكل ضد الكل».
ويأتي الدعم السعودي لمشاريع في الأردن، في إطار عام من مراجعة محتملة لسياستها الخارجية إبان عهد ترامب التي اتسمت بالفتور تجاه الأردن، والآن يبدو أن الرياض معنية بإصلاح الصدع «المؤقت» الذي طرأ بفعل ما قيل أنه محاولة من تيار داخل الدولة لمزاحمة الأردن في وصايته الهاشمية الحصرية على المقدسات في القدس، وما قيل عن أدوار محتملة لموظفين رسميين في قضية «الفتنة».
وقد تجنبت عمان بحكمة التصعيدَ الدولي والإعلامي ضد الرياض في ما وُصف بأنه «أزمات صامتة» في العلاقة بين البلدين، لا بل أبدت عمان دعمها للرياض في أوقات حرجة، كما في مشاركة جلالة الملك عبدالله الثاني في مؤتمر دافوس الصحراء الذي عقد في السعودية في أكتوبر 2018 والذي شهد مقاطعة دولية سياسية واقتصادية واسعة تعبيراً عن حالة «الرفض» لمقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، في القنصلية السعودية في إسطنبول.
ويتوقع أن عمان أدت دوراً في تخفيف ضغوط الإدارة الديمقراطية تجاه السعودية فيما يتعلق بهذه القضية وبملف الحريات بشكل عام. كما أن الرؤية الأردنية تجاه السياسات الإيرانية تراعي القلق السعودي، وهذه الرؤية تسعى الدبلوماسية الأردنية جاهدةً لإقناع واشنطن والعواصم الأوروبية بصوابيتها. ورغم التباعد السياسي بين الأردن والسعودية إلا أن التفاعلات البينية في طريقها للتعافي، وبالطبع تزايد التنسيق السياسي الثنائي يُتبع بدعم اقتصادي للأردن بمبادرةٍ سعودية وطلبٍ أمريكي.
رابع أدوات القوة تظهر من تقدير بكين للدور الأردني الذي يتماشى مع فلسفتها الداعية إلى اتباع مبدأي عدم التدخل واحترام السيادة في العلاقات الدولية. ففي حال عدم توفر غطاء سياسي أمريكي للشق الأردني من شبكات الربط الإقليمي قيدَ الإنشاء، فإنه يمكن التنسيق مع الصين لتعويض التراجع الأمريكي عن دعم هذه المشاريع.
وتظهر صفحة مشروع شبكة السكك الحديدية الوطنية المنشورة في ديسمبر 2014 على موقع وزارة النقل أن الشركة الصينية «CCECC» مهتمة بالمشروع « حيث أوفدت فريقاً هندسياً إلى الأردن، والذي قام بدراسة وتتبع مسار الشبكة بالكامل، حيث تقدم الفريق الهندسي الصيني بتقرير حول المشروع ويجري حالياً دراسة هذا التقرير من قبل اللجنة الفنية للمشروع».
ولم يتسنى التحقق من دور الشركة في المشروع الآن ولا من موقع السكة الأردنية في «طريق الحرير». جدير بالذكر أن شركات صينية تنخرط في مشاريع ضخمة لتشييد سكك حديدية لنقل البضائع والأفراد في مصر، كما أن العراق يشهد تزايد حضور الصين في مشاريع البنية التحتية كالطاقة -بشقيها النفطية والكهربائية- وإعادة الإعمار.
إدارة البدائل
من المنطقي بعد استعراض هذه المعطيات عدم رفع سقف التوقعات حيال تشغيل المشروع بامتداداته إلى الدول المجاورة، أو حيال عوائد المشروع على الخزينة العامة بعد تشغيله. ونظراً للطبيعة المعقدة لعمل السكك الحديدية والتي تم إيجازها في بند «نظرة عامة»، وبسبب التنافس الإقليمي والدولي الحاد على مشاريع الربط كما جاء في بند «مسارات متكاملة أم متصادمة؟» فإن الحكومة الأردنية معنية بعدم التعويل على سكة الحديد كأولوية قصوى، فهنالك مجالات تفوقها أهمية كالمياه والطاقة.
ولا يعني ذلك التقليل من أهمية الربط السككي، ولكن كلفته العالية قد تشكل عقبة إذا تخلى أحد الأطراف عن تعهداته في تمويل المشروع. وهنا يجب التأكيد على توفر «خيارات بديلة» للحالات الطارئة غير المتوقعة، فمثلاً إن انسحب مستثمر ودعت الضرورة الاستراتيجية للمضي قدماً في العمل؛ يمكن تأسيس شركة مساهمة عامة من المواطنين، أو بيع سندات بكفالة حكومية للمشاركة في تأمين التمويل على أن تُستحق هذه السندات الدفعَ بعد مدة محددة، وقد نجحت السندات الشعبية في توفير جزء من كلفة توسعة قناة السويس في مصر.
ولتجنب العوائق السياسية التي قد تطرأ خلال التنسيق بين الدول التي ترتبط بها السكة الوطنية، يمكن تأسيس هيئة عليا تضم مندوبين عن الدول المعنية يتمتعون بخبرة تقنية وإسناد سياسي من المستوى القيادي للاستجابة لما قد يستجد من عقبات.
ويبقى نجاح المشروع الرابط بين بلاد الشام والجزيرة العربية رهناً بتفكك عُقَد البيئة الإقليمية ونجاح الترابط الاقتصادي الذي يدعو الجميع لانتهاجه بمعزل عن تسييس التعاون في القطاعات الحيوية التي تهم شعوب المنطقة.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات