إيران وتوظيف التشيع السياسي إشكالات المفهوم واستراتيجيات الخطر والاحتواء
تقدم الورقة قراءة مُعمقة في مفهوم "التشيع السياسي" وإشكالياته، والكيفية التي وُظف بها من قبل إيران بعد "الثورة الإسلامية" عام 1979، لتطبيق نموذج "الولي الفقيه" في عموم المنطقة، واستراتيجيات قائدها الخميني "الثورية" لتقسيم المجتمعات على أسس مذهبية، بمطالب وغايات سياسية بحتة.
الكاتب د. هاني نسيره
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٠٥/٠٤/٢٠٢٢
ربما يكون التشيع السياسي مرادفا للشيعية السياسية أو أوسع منها قليلا، فالأخيرة هي التجسيد الواقعي والعملي للأولى بتمثلاتها في التكتلات والكيانات والقوى الموالية لنظام "الثورة الإسلامية" الإيرانية، وتتوجه بتوجهاته في بلدانها ودولها وأوطانها وتقدم انتماءها المذهبي له على انتماءها لهذه الأوطان والدول.
من جانب آخر، يبدو التشيع السياسي -من وجهة نظرنا- أنه المرجعية والأيديولوجية الفكرية التي تدعو للارتباط والولاء لنظام الولي الفقيه وتوجهاته وأذرعه ومواقفه. كما ويتسع التشيع السياسي، ومعه الشيعية السياسية، لأطياف وألوان من غير الشيعة الإمامية (الإثني عشرية)، حيث تدعم حكومة الولي الفقيه بجميع أشكال الدعم، المجموعات الأكثر تطرفا نظريا وعمليا داخل المذهب الشيعي، مثل فئات من الحوثية، والنزارية والدروز وغيرها، كما يخترق المذهب السني في بعض جماعاته المتشددة، مثل حماس وحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وصولا إلى القاعدة وغيرها، كما قد تتسع دائرته أو تضيق عبر تلاقي المصالح والمقاصد، وتطابق تصورات الولاء والعداء.
وهو ما يتم عبر استراتيجيات متعددة ومختلفة للدعم والاحتواء، مادية وثقافية وسياسية، سنحاول التفصيل في بعضها في هذه الورقة.
سمات ظاهرة التشيع السياسي
لا يوجد مصطلح حديث للتشيع السياسي، ربما لحداثة ظاهرته، وارتباطه بإطار الدولة الحديث، كفضاء لاشتغاله، وليس فضاء الأمة، وإن كان يَعبُر الأولى؛ بتقديمه رابطته المذهبية على مقولة الوطن أو الدولة الوطنية، والشراكة فيهما.
ابتداءً، ربما علينا أن ندرك تميز ظاهرة التشيع السياسي المعاصر، عن التشيع التقليدي والتاريخي، والصراع المسلح من أجل الإمامة قبل الغيبة الكبرى (التي بدأت عام 329 هجرية)، وبعدها، وما تبلور خلاله من مقولات عقدية وكلامية، استقرت منذ القرن الثالث الهجري، حيث كان الخلاف والحضور المذهبي عقديا في فضاء الأمة، بينما ينشط التشيع السياسي، داخل الأوطان والدول الوطنية، بخطاب سياسي وممارسة صراعية وتغالبية على السلطة فيها.
كما يتميز التشيع السياسي المعاصر عن التشيع التاريخي، بارتباطه العقدي بنظام الولي الفقيه والدولة الإيرانية، التي قامت عليه منذ العام 1979، ومرجعيته وطاعته في صِدام وتجاوز مع مصالح وطنه ومواطنيه، وكذلك في تمايز عن الفقه التقليدي للمذهب منذ الغيبة الكبرى.
وبناء على ما سبق، تختلف ممارسات خطاب التشيع السياسي المعاصر عن القديم، حيث لا يقف عند توظيف الإمامة العقدية والمهدوية الكلامية التاريخية فقط، التي تناسب أبناء المذهب الشيعي المتدينين، وتمثل مشتركا بين مختلف الفرق الشيعية، ولكن يركز بشكل رئيس على مقولات ودعايات معاصرة للحشد والتعبئة والتجنيد مثل المكاسب السياسية والتغالب والمحاصصة، وتوظيف المظلومية والتهميش، وتخوين الآخرين وتكفيرهم وطنيا وسياسيا، على مستوى الداخل والممانعة والرفض للغرب وحلفائه على مستوى الخارج.
مما سبق يمكن القول إن التشيع السياسي- يشير في مفهومه المعاصر لمحددين رئيسين:
- الجماعات والمجموعات المؤمنة بالانتماء والولاء والتبعية لنظام الثورة الإسلامية الإيرانية وأيديولوجيته وتوجهاته، وتنشط وسط الأقليات الشيعية بالخصوص، كما تنشط في غيرها؛ ممن ينجذبون ويؤمنون بالمقولات الثورية الخمينية وأهدافها ويلتقون معها في تصورات الأولياء والأعداء.
- حالة الحضور المذهبي الشيعي في صراعات السياسة والسلطة، حيث يتحول إلى غاية ووسيلة في الوقت نفسه، وتتقدم ولاءاته الخارجية على انتماءاته الداخلية، وهو ما يمهد المجتمعات للممارسات العنيفة والاشتباكات بناء على الهويات الفرعية، ويثير ريبة الكثيرين من شركاء الوطن في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه.
وقد جمع ما سبق، تحذير الإمام الراحل محمد مهدي شمس الدين (أحد أعلام الفكر الإسلامي الشيعي، ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان سابقاً)، من آثار التشيع السياسي، بقوله:
"ظهرت في العقود الأخيرة من السنين ظاهرة في دائرة الشيعة العرب بشكل خاص، وبدائرة الشيعة بوجه عام، وهي إنشاء تكتلات حزبية سياسية بوجه خاص لغرض المطالبة بحقوق الشيعة، أو إظهار شخصية الشيعة، أو الدفاع عن حقوق الشيعة" ثم يضيف عن نتيجة هذا التشيع السياسي أو الشيعية السياسية بقوله: " وهذه التكوينات، بحسب رصدنا لما آلت إليه، لم تؤدي إلى أي نتيجة تذكر، بل أدت إلى كثير من الأزمات، وعمقت الخوف والحذر وسوء الظن والتربص في أنفس بقية المسلمين في المجتمع من خصوص طائفة الشيعة، وسعت نحو عزلهم بشكل أو بأخر عن الحياة العامة وعن التفاعل مع نظام المصالح العامة.. وقد ثبت بالتجربة أن التجمعات الشيعية المعاصرة، من قبيل "حزب الدعوة" وغير "الدعوة"، لم تستطيع أن تحقق لنفسها بعدا إسلاميا داخل الطوائف والمذاهب الأخرى، وإنما حققت في أحسن الأحوال تعايشا هشا مشوبا بالشك والحذر"[1].
ونتيجة لهذه العصبية المذهبية السياسية، ظهرت الجماعات المُسلحة في المنطقة وضج العالم من عملياتها الإرهابية منذ ثمانينات القرن الماضي، ووقعت الكثير من الحروب والاشتباكات على مدار العقود الأخيرة، سواء داخل الوطن الواحد، كما هو الحال في العديد من دول المنطقة التي تُعاني من ظاهرة انتشار السلاح خارج إطار الدولة، إذ تنشط الجماعات المُسلحة من غير الدول بما يتجاوز أدوار الحكومات ومسؤولياتها، وتمارس الاغتيالات لمعارضيها ومهدديها والمختلفين معها، ويحدث ذلك أيضاً على المستوى الإقليمي في التدخل بشؤون الدول الأخرى، والدخول في صدامات عسكرية كالحرب الإيرانية العراقية عام 1980، فضلا عن دعم عمليات إرهابية داخل الدول المعادية والمختلفة مع نظام "الثورة الاسلامية" الإيرانية.
ولهذا حذر الإمام محمد مهدي شمس الدين في وصاياه من مغبة التشيع السياسي بقوله:
"أوصي أبنائي إخواني الشيعة الإمامية في كل وطن من أوطانهم، وفي كل مجتمع من مجتمعاتهم، أن يدمجوا أنفسهم في أقوامهم وفي مجتمعاتهم وفي أوطانهم، وأن لا يميزوا أنفسهم بأي تميز خاص، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعا خاصا يميزهم عن غيرهم، لأن المبدأ الأساس في الإسلام. وهو المبدأ الذي أقره أهل البيت المعصومون عليهم السلام. هو وحدة الأمة، التي تلازم وحدة المصلحة، ووحدة الأمة تقتضي الاندماج وعدم التمايز.. وأوصيهم بألا ينجروا وألا يندفعوا وراء كل دعوة تريد أن تميزهم تحت أي ستار من العناوين، من قبيل إنصافهم ورفع الظلامة عنهم، ومن قبيل كونهم أقلية من الأقليات لها حقوق غير تلك الحقوق التي تتمتع بها سائر الأقليات"[2].
وهكذا، دفع النظام الإيراني، الشيعة للحضور المذهبي المحض والعنيف في مجال السياسة والسلطة، رغم أن حضور الشيعة قبل عام 1979 كان سياسيا ووطنيا بامتياز، في تاريخ بلدانهم ودولهم، عبر مشاركتهم التاريخية في حركات الاستقلال و في الحركات والأحزاب القومية واليسارية بل وأحيانا المسيحية في لبنان طوال القرن العشرين[3].
حتى نجحت الاستراتيجية الإيرانية في التشيع السياسي، في تعطيل ووقف هذا الاندماج، وتمييز المذهبية الشيعية، وتهميش النخب العقلانية والوطنية، والمرجعيات المغايرة للولي الفقيه والمختلفة معه وعنه، والتمكين للأصوات والكيانات الموالية له فقط، بدءً من داخل إيران إلى خارجها في فضاء المذهب والأمة بشكل عام.
الوسائل الست في استراتيجية التشيع السياسي
إن فكرة التشيع السياسي مرحلة لها خطواتها، من استراتيجية أكبر هي "تصدير الثورة" التي اعتبرها الخميني أولى عقائده ومبادئه وأهدافه، حين أكد عليها في الذكرى الأولى لثورته، في 11 فبراير سنة 1980 حينما قال: "إننا نعمل على تصدير ثورتنا إلى مختلف أنحاء العالم، لأنها ثورة إسلامية"[4].
وتبدو هذه الاستراتيجية للتشيع السياسي والتمكين للشيعية السياسية، سلطوية وعنيفة في جوهرها وممارستها، وإيرانية في التوجه والمرجعية، وصفوية تصفوية في صراعها وموقفها من آخريها، وقد حاولت دائما تهميش سواها من التوجهات المعتدلة والمعارضة لها، مثل أطروحات التشيع العلوي والتشيع الروحي، والتشيع العربي والوطني في محاولة لاحتكار الحديث باسم المذهب كما احتكار الحديث باسم الأمة.
وبخلاف التشيع العقدي الخالص في وضوح مواقفه وتقليدية خطابه، اتسم التشيع السياسي بالتنوع والمُراوغة، انطلاقاً من جوهره السياسي والفكري والأيديولوجي لدعوة التثوير، والذي أنتج فيما بعد الشيعة بوصفها السياسي، وبجماعاتها المُسلحة، وبأهدافها في إنهاك الأنظمة والحكومات المناوئة والمعارضة لها.
ويمكننا رصد ست من أدواته ووسائل التشيع السياسي فيما يلي:
أولاً: تقديس الولي الفقيه واحتكار المرجعية
منذ قيام "الثورة" الإيرانية سعت حكومتها لاحتكار المرجعية في شخص الولي الفقيه ونظرية روح الله الخميني (توفي سنة 1989) التي انفرد بها، والمُتجسدة في حكم "الولي الفقيه"، والتي شرحها وفصلها في محاضراته التي جمعت فيما بعد في كتابه "الحكومة الإسلامية"[5]، وطبقها بعد نجاح ثورته، رغم أنه لم يكن الأعلى في مقام المرجعية العلمية في حوزة (قم) قبل ذلك، ولكن عبر ثورته ونظريته نجح الخميني في احتكار الصوت والسلطة على الشيعة، وأنهى ثنائية (الفقيه والسلطان) المتوارثة منذ عهد رجل الدين الشيعي علي الكركي، لتتحول إلى السلطان الفقيه والفقيه السلطان، أو كما يشرحها محمد الصياد: "أنّ الدين دخل في أحشاء السُّلْطة، فلا وجه لمعارضة رجل الدين للسُّلْطة السياسيَّة على الوجه الذي كان معروفًا في عهد الشاه لأنها صارت متحدثة باسم الإمام الغائب أيضًا، بل إنّ رأي السُّلْطة صار مُلزِمًا -في القراءة الخُمينيَّة- لغيرها من الفقهاء"[6].
ومنذ البداية، نجح الخميني في الاستيلاء على الثورة وتنحية كل شركائه، وعزل المراجع المعارضة له داخل إيران، مثل محمد كاظم شريعتمداري (1905- 1986) الذي كان سببا في إنقاذ الخميني من الإعدام بعد أحداث مدرسة الفيضية سنة 1963[7]، وكذلك آية الله محمود طالقاني (1910- 1979) الذي عُرف بـ "خطيب الثورة" في مسجد طهران، وأكثر وجوهها الأولى انفتاحا على مختلف التيارات السياسية والفكرية.
كما لم تتسع الثورة ومرشدها لأي اختلاف أو تطور للرفقاء، مثل آية الله حسين منتظري (1922-2009) نائب المرشد الأول وثاني أبرز رجالات "الثورة"، ورئيس مجلس قيادة الثورة، والذي كان أقوى المرشحين حينها لخلافة الخميني، قبل تحوله، وكذلك محمد مهدي الشيرازي (1928-2001) وغيرهم ممن وطردوا أو قيدوا بالإقامة الجبرية أو غير ذلك.
ومن المهم أن نشير هنا أن فكرة الولي الفقيه تُغري زعماء الأقليات الشيعية المرتبطين بالنظام الإيراني، بتنفيذ "الثورات" وحصد المكاسب نفسها، ولعل جماعة أنصار الله الحوثيين في اليمن، يمثلون نموذجاً معبراً عن هذا الإغراء في الانقلاب على الحوار الوطني والشرعية وإصرار زعيمهم على احتكار وإدارة كل شئ، بامتلاكه الشرعية الدينية والعنيفة في آن واحد.
ثانياً: ترويع الاختلاف وتصفية المختلفين
كثيرا ما تلجأ "الشيعية السياسية" لترويع الاختلاف، وترويع المختلفين عبر قواتها والجماعات المسلحة التابعة لها، ونذكر في ذلك اجتياح جماعة أنصار الله الحوثييين لمدينتي دماج وعمران في يونيو سنة 2014، ثم اجتياح العاصمة اليمنية صنعاء في سبتمبر سنة 2014، وهو ما تمارسه مُختلف الجماعات المُسلحة المنضوية لإيران في المنطقة.
وفي الواقع، استخدمت "الثورة الإسلامية" الإيرانية أداة الترويع والتصفية، وهي النموذج والمثال عند "الشيعية السياسية"، لاحتكار الفضاء الديني والمذهبي والتغلب على الفضاءات السياسية والوطنية داخل إيران، بعد أن قضت على كل شركائها السابقين في دعايتها واستبعدتها من مسارها وسلطتها.
كما أنها ما تزال تحرص على حرمان وتهميش المخالفين لنهجها، فاشتراط الحياة والفعل والممارسة السياسية في إيران، هو الإخلاص لمبادئها والموافقة على كل ما يصدر عن مرجعيتها، وهو ما يقوله صراحة المرشد الحالي علي خامنئي.
وفي سبيل هذا الترويع والصورة التي تخيف الخصوم والمتخوفين، لا تزال إيران تحتل المرتبة الثانية عالمياً، بين أكثر الدول تنفيذاً لأحكام الإعدام، وفقاً لبيانات العام 2019، وبالرغم من تنوع الجرائم المؤيدة لعقوبة الإعدام في إيران كالمخدرات وغيرها، يبقى النهج الترويعي حاضراً كما ذكره القاضي صادق الخلخالي (1926 – 2003)، لأحد مرافقيه بالقول: "حتى يُلقى الرعب للعامة كافة"، والذي يأتي في سياق رأي الخميني العنيف لمعارضيه بقوله: "قاتلوا أئمة الكفر"[8].
وهكذا، اختزلت إيران الواسعة، فكريا وحضاريا، في صوتها المحدود، ونجحت دعاية "الثورة الإسلامية" وأذرعها، في احتكار المذهب وتهميش صوت الاعتدال خارجها وأصوات معارضيها داخل سائر الأقطار العربية والإسلامية، فتم تهميش مرجعية النجف وتأخيرها لصالح مرجعية قم، وكذلك تهميش وتحييد وجوه ومراجع شيعية كبيرة وإهمال توجهاتهم ورؤاهم، مثل الإمام موسى الصدر (1928- اختفى في 21 أغسطس سنة 1978) ومحمد باقر الصدر (أعدم سنة 1980)، وتم تهميش التشيع العربي والعقلاني ممثلا في شخصيات ومراجع كبيرة مثل الراحل اللبناني محمد حسين فضل الله (1935-2010) والسيد محمد مهدي شمس الدين ( توفي سنة 2001)، وكل محاولات البعد عن الوصاية الإيرانية أو الاختلاف مع نظرية الولي الفقيه. كما تم تهميش أسماء كالمفكرين اللبنانيين محمد حسن الأمين (1946-2021)، ورجل الدين الشيعي هاني فحص (1946-2014)، والمُفكر الشيعي حسن العلوي والمرجع الديني محمود الصرخي في العراق، وغيرهم الكثير ممن دعو للتشيع العربي والتمكين لمقولة الوطن واستيعاب المذهب لها واندماجها فيها.
ثالثاً: زعامة "الإسلام السياسي" وقضية القدس
تظهر "الثورة الإسلامية" الإيرانية، كزعيمة ورائدة لحركة الإسلام السياسي، وتعتبر أول حركة إسلامية نجحت في إقامة حكومتها سنة 1979، وتتفرد ببقاءها في العصر الحديث كل هذه العقود، وحاول الخميني وخليفته خامنئي منذ البداية استلهام خطابات كل من حسن البنا وسيد قطب، والحديث باسم الأمة والدفاع عن القدس والقضية الفلسطينية، ورفع شعار "الموت لأمريكا والموت لإسرائيل" والدعوة للحاكمية وإقامة الدول الإسلامية واتهام الحكومات الوطنية بالخيانة والكفر والعمالة وغيرها من تهم متطرفة.
وكون النظام الإيراني يملك القوة والدعم المادي، فقد مثل نموذجا جاذبا للعديد من هذه الحركات التي أسس بعضها على صداه؛ السنية والشيعية على حد السواء، شأن حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، التي تحتفظ بروابط قوية مع إيران، ووصولا للقاعدة وتنظيمها.
وقد نجح خطاب "الثورة" الإيرانية في الانتشار وسط الأقليات المسلمة في إفريقيا، بل نجحت إيران في تحويل حركة كبيرة كتلك التي يترأسها الشيخ ابراهيم الزكزاكي نحو التشيع بعد أن كانت سنية، الذي كان له – تحول الزكزاكي نحو التشيع - أثر في ظهور حركة بوكو حرام فيما بعد.
الشاهد هنا، وما نريد قوله، إن إيران تمتطي أطروحات الإسلام السياسي والتبشير المذهبي لصناعة ولاءات تتبعها وترتبط بها من مختلف البيئات في العالم الإسلامي. وكان دعمها لأفكار ودعوات الأسلمة والردكلة خاصة في الاتجاهات الاجتماعية والفنية، أثرها في جذب انتباه كثير من المتطرفين إليها، مما جعل إيران تبدو نموذجا لدى مختلف حركات الإسلام السياسي والتطرف العنيف في المنطقة والعالم الإسلامي، ليتبادلان مع بعضهما البعض المدد النظري الراديكالي والعنف.
ومن نافلة القول، إنه ومنذ ثمانينيات القرن الماضي نجحت إيران في تأسيس وتدريب أذرع شيعية موالية لها في كثير من البلدان، فيما عرف بظاهرة "أحزاب الله"، مما يمثل فضاء واسعا للتشيع السياسي والشيعية السياسية التي تتلقى منها مليارات الدولار سنويا من ميزانية الحرس الثوري.
رابعاً: تجسير الفجوة مع الفرق الشيعية غير الإمامية الإثني عشرية
حرصت إيران على تجسير الفجوة بين مختلف فرق الشيعة، أو بين الإمامية تحديدا وغيرها من الفرق الشيعية على اختلاف درجاتها، المعتدلة والمغالية، عبر استراتيجيات مختلفة بدعوتهم ومنحهم الفُرص التعليمية في حوزة قم، كما حدث مع مؤسس حركة الحوثي، حسين الحوثي، والذي تماهى كلياً مع خطاب "الثورة الإسلامية" الإيرانية، وأبدى إعجابه الشديد بشخصية وفكر الخميني، والتي وفرت لحركته وجماعته فيما بعد مختلف وسائل التدريب والدعم حتى استطاع القيام بسبعة حروب ضد بني وطنه.
كما سعت الحكومة الإيرانية لاحتواء أقليات شيعية أخرى عبر نفس الشعار، ونجحت في نشر الحسينيات خارج إيران، وتشييع قطاعات عريضة عبر تلبية مطالب العوز والاحتياج في مناطق الصراعات، عبر بسط سيطرتها الفكرية والمادية والظهور بمظهر المدافع عنهم ضد الأخطار المحدقة بهم.
خامساً: المنح والخدمات والتبشير
تشتري إيران الوجدان والولاء للمحرومين منهم في أوساط الأقليات من خلال تقديم الدعم المادي والخدمي عبر مؤسساتها المختلفة مثل مؤسسة الخميني للإغاثة، التي يُنظر لها، باعتبارها أحد وسائل التبشير والتجنيد، نظراً لنشاطها العالمي الذي يشمل دولاً عربية وأفريقية على حد سواء.
وعبر هذه المؤسسات التعليمية المجانية وتقديم المنح والمكافأت؛ تتم التعبئة والشحن الأيديولوجي للمتدربين.
سادساً: الدعم السياسي والمادي
يأتي التمدد الإيراني مع تمدد التشيع السياسي والعكس، وتواصل الدعم المادي والمعنوي لأذرع وممثلي الشيعية السياسية، كيانات وأفرادا، ففي العام 2019 وبحسب المعهد الدولي لمكافحة الإرهاب، مولت إيران الحوثيين حتى قبل اجتياحهم للعاصمة صنعاء في عام 2014، وكان يتم تسليم معظم التمويل المقدر بـ1025 مليون دولار، على شكل دعم للأنشطة الثقافية والدينية، فضلا عن الدعم بالأسلحة والصواريخ الباليستية وتطوير الأسلحة وغير ذلك من أنواع دعم[9].
وصار التشيع السياسي ممكنا ومتاحا عبر شبكة علاقات واسعة في مختلف البلدان العربية والإسلامية، تنشط في العديد منها كما أسلفنا، واستقر كثير منها وبنى مؤسساته وحدد أهدافه واستراتيجياته فيها، في إطار الثورة الإيرانية وأهدافها ومصالحها.
نذكر على سبيل المثال أن إيران دعمت، بعد فترة وجيزة من ثورة 1979، العديد من الجماعات المُسلحة في العراق منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. بدأ معظمها كجماعات مُسلحة وتطورت بمرور الوقت إلى العمل السياسي. كما تُقدم إيران الدعم لحماس وحركة الجهاد الاسلامي في فلسطين، لأكثر من ثلاثة عقود، وقد تراوح الدعم المالي لحماس بين 20 مليون دولار و50 مليون دولار في السنة، من 1990 إلى 2000 [10].
نحو استراتيجية مضادة لتحرير المذهب من قبضة الولي الفقيه:
ربما يكون صعبا الحديث عن تحرير المذهب الشيعي من قبضة الولي الفقيه، في ظل تمكن الشيعية السياسية، والاحتقان المذهبي في كثير من بلدان المنطقة، وفي خضم اللحظة التناحرية بين المتطرفين من السُنة والشيعة، وهم يستهدفون الجميع ويدعون للحرب في المنطقة بأسرها. كان لا بد من الطرح والانتباه للتشيع السياسي وضرورة استعادة التشيع العربي والوطني والمعتدل، وهو ما يمكن تحديد الخطوط المبدئية التالية له:
أولا: إدراك وإدارة التنوّع داخل المجال الشيعي، كما هو حادث وماثل داخل المجال السنّي، واتخاذ مواقف مشتركة ضد كلا التطرفين.
ثانيا: إدراك التنوع والخلاف بين التشيّع العربي والعلوي من جهة والتشيّع الإيراني السياسي والصفوي من جهة أخرى، كمدارس متمايزة ومختلفة، وتحاشي تجيير الكل لصالح الهامش الإيراني.
ثالثا: تجسير الفجوة مع الطرح التجديدي والنقدي للتطرّف الشيعي، منذ طالقاني وشريعتي ومطهري، حتى شبستري وسوروش وغيرهم ممّن فصلوا التوظيف السياسي للطائفة في نظام الولي الفقيه.
رابعا: تجريم وتحريم النزعات والخطابات التعصبية المستنفرة للمكوّنات المذهبية المخالفة، والإدارة الواعية والمسؤولة في إطار الوطن بين التنوعات المذهبية.
خامسا: الانطلاق من "الآن" ومن المكان "هنا" ومن التراث التسامحي العابر للطوائف نحو الأصل الإسلامي والآفاق المشتركة التي تحافظ على الأوطان ضد محاولات تفجيرها الداعشية.
سادسا: إعادة الاعتبار لسؤال النهضة الذي انشغل بتجاوز حالة وفجوة تخلفنا وتقدّم غيرنا، منذ طرحه أواخر القرن التاسع عشر، وليس فقط مع شكيب أرسلان وكتابه الشهير عام 1939، وبعيدا عن أسئلة التاريخ التي صارت اعتقادا وخلافا حول الإمامة والخلافة والفتن!
[1] الإمام محمد مهدي شمس الدين(1936-2001)، الوصايا، ص3
[2] وصايا الإمام محمد مهدي شمس الدين، م س ذ، ص 2
[3] انظر على سبيل المثال د. محمد وجيه نظمي، شيعة العراق، وقضية القومية العربية، قبيل الاستقلال، مجلة المستقبل العربي أعداد 42، 43،44 سنة في 8، 9، 10 سنة 1982، يمكن مراجعتها على هذا الرابط، وأيضا الإمام محمد مهدي شمس الدين(1936-2001)، الوصايا، ص2
[4] من كتاب تصدير الثورة كما يراه الخوميني، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الخوميني الدولية بدون تاريخ)..
[5] روح الله الخميني، الحكومة الاسلامية، شبكة الفكر، الطبعة الثالثة، ( دروس القاها في النجف الاشرف من 13 ذو الفعدة الى 1 ذو الحجة 1389 هـ- 1969 ميلادية) وأيضا: حيدر آل حيدر، ولاية الفقيه: الشورى وولاية الفقيه، ط2 مجمع الفكر الإسلامي، ط1سنة 1409 هجرية-1988 م
[6] انظر محمد الصياد، موقف النظام الإيراني من المراجع ورجال الدين المخالفين، المعهد الدولي للدراسات الدولية رصانة، منشورة بتاريخ 12 سبتمبر سنة 2017 على هذا الرابط: https://rasanah-iiis.org/?p=8960
[7] حدثت في 22 مارس عام 1963، عندما داهمت قوات أمنية مدرسة الفيضية في مدينة قم، حيث كانت تضم عدد من اللاعبين المؤثرين في المُعارضة السياسية الإيرانية.
[8] الموسوي، الثورة البائسة، مصدر سابق مذكور، ص 135 و 136.
[9] انظر تقرير بعنوان: الدعم الإيراني للحوثيين.. تمويل وتدريب وتهريب أسلحة، موقع المرصد بوست بتاريخ 13 ديسمبر سنة 2019
[10] لتفاصيل أكثر راجع تقرير بعنوان: كيف اخترقت إيران الحياة السياسية لدول الجوار؟، مركز أسبار الشرق الأوسط، تاريخ النشر 21 أغسطس 2020.
*تُعبر هذه الدراسة عن وجهة نظر كاتبها، ولا يتحمل مركز ستراتيجيكس أي مسؤولية ناتجة عن موقف أو رأي كاتبها بشأن القضايا الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخرى، ولا تعكس بالضرورة موقف و/أو وجهة نظر المركز.
د. هاني نسيره
كاتب وخبير سياسي