إعادة بناء الجيش السوري: إمكانات وتحديات ومخاطر
تواجه عملية إعادة بناء الجيش السوري بعد تغيير نظام الأسد، تحديات بنيوية وسياسية تعترض تشكيل مؤسسة عسكرية وطنية جامعة، حيث يعاني المشهد العسكري السوري الحالي من انقسامات حادة، إضافة إلى وجود مخاوف حول الهوية الأيديولوجية للجيش الناشئ، وتأثيرها على التماسك الداخلي والموقف الدولي، فضلاً عن محدودية تمثيل المكونات السورية المختلفة ضمن بنيته. وعليه يرتهن نجاح إعادة بناء الجيش السوري؛ بقدرته على تمثيل المجتمع السوري المتنوع، ووجود دعم دولي مشروط بالمحاسبة والشفافية.
الكاتب ستراتيجيكس
- تاريخ النشر – ١٥/٠٥/٢٠٢٥

تُعدّ إعادة بناء الجيش السوري بعد تغيير نظام الأسد في ديسمبر 2024 مهمة بالغة التعقيد ومحورية لتحقيق الاستقرار في البلاد على المدى الطويل. فهي لا تقتصر على كونها مسألة عسكرية فحسب، بل ترتبط ارتباطًا جوهريًا بالمشروع الأوسع المتمثل في بناء الدولة وصياغة عقد اجتماعي جديد. كما تتأثر هذه العملية بعوامل عدة، أبرزها المصالحة الوطنية، وموازنة المصالح والمخاوف الإقليمية. ويُرتقب أن يكون لنجاح هذه التجربة أو تعثرها تداعيات كبيرة على استقرار منطقة الشرق الأوسط وأمنها بشكل عام. وتتضمن التحديات الرئيسة معالجة الانقسامات الداخلية بين الفصائل ودمجها بشكل فعّال، وإنشاء آليات قوية للتدقيق والمساءلة، والتعامل مع قضية المقاتلين الأجانب، وإعادة تفعيل نظام التجنيد الإلزامي بشفافية. كما تشمل التحديات تجاوز القيود اللوجستية والمالية، وتأمين دعم دولي متعدد الأطراف، وتحديد عقيدة عسكرية وطنية واضحة المعالم. وعليه، تهدف هذه الورقة إلى تقديم تحليل شامل للحقائق، والإمكانات، والتحديات المرتبطة بهذه العملية، مع التركيز على الوضع الحالي المجزأ للجيش، والنماذج المحتملة لإعادة هيكلته، والعقبات المتوقعة.
المشهد العسكري السوري الحالي
شكّل الانهيار السريع للنظام السوري السابق في ديسمبر 2024، في أعقاب هجوم عسكري قادته الفصائل المسلحة وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام"، نقطة تحوّل دراماتيكية في المشهد السوري، إذ دخلت البلاد مرحلة جديدة محفوفة بعدم اليقين والتحديات المعقّدة، لا سيّما فيما يتعلّق بمستقبل القوات المسلحة. فقد تمّ حلّ الجيش السوري، الذي كان يشكّل العمود الفقري للنظام، بعد عقد من الانخراط في صراع داخلي أثّر بشدة على قدراته؛ إذ انخفض قوامه إلى أقل من النصف نتيجة الخسائر البشرية، والفرار من الخدمة، والتراجع المعنوي، وصولًا إلى انهياره الكامل مع سقوط النظام، ثم الإعلان عن حلّه رسميًا بعد عملية انتقال السلطة، وهو ما خلّف فراغًا كبيرًا في بنية السلطة وأدّى إلى حالة أمنية مضطربة.
وقد تزامن ذلك مع تنفيذ إسرائيل عملية عسكرية جوية أطلقت عليها اسم "سهم باشان"، والتي أسفرت في 12 ديسمبر عن شنّ أكثر من 352 غارة جوية على 13 محافظة سورية، أدّت إلى تدمير ما يزيد على 80% من الترسانة الاستراتيجية السورية، بما في ذلك الدفاعات الجوية، وأنظمة الرادار، والأصول البحرية. وبالتوازي مع هذه الضربات، سيطرت القوات الإسرائيلية على المنطقة العازلة السورية وعلى مواقع استراتيجية بارزة، من أهمها جبل الشيخ، مُعلنةً بذلك انهيار اتفاقية فصل القوات الموقّعة مع سوريا عام 1974.
في غضون ذلك، برزت "هيئة تحرير الشام" كفاعل رئيس في المشهد السياسي والأمني، وشكّلت عماد الإدارة الانتقالية ثم الحكومة المؤقتة. وتولّى أحمد الشرع، المعروف سابقًا باسم "أبو محمد الجولاني"، قيادة المرحلة الانتقالية، قبل أن يُعلن نفسه رئيسًا في 29 يناير 2025. وعلى الرغم من تصريحه في أكثر من مناسبة عن نيته بناء جيش وطني يعكس التنوّع العرقي والديني في المجتمع السوري، إلا أنّ الخطوات العملية اللاحقة لم تسر في هذا الاتجاه؛ إذ بات واضحًا أن الجيش الجديد يتكوّن من مكوّن واحد تقريبًا. فقد هيمن القادة السابقون في الهيئة على الوزارات والهيئات العسكرية والدفاعية. فعُيّن مرهف أبو قصرة، المعروف سابقًا بـ"أبو الحسن الحموي"، وزيرًا للدفاع، في حين تولّى علي نور الدين النعسان، القيادي السابق في الهيئة، منصب رئيس الأركان. ومن جهة أخرى، تركزت غالبية الترقيات والتعيينات العسكرية في صفوف الجيش الجديد على قادة آخرين من الهيئة، مثل محمد خير حسن شعيب (المعروف سابقًا بـ"أبو الخير تفتناز")، وعبدو محمد سرحان (المعروف سابقًا بـ"أبو عاصم غوطة")، الذي كان أمير "جبهة النصرة" في الغوطة الشرقية.
علاوة على ذلك، مُنح عدد من المقاتلين الأجانب في الهيئة حصصًا من المناصب العسكرية، من أبرزهم: عبد الرحمن حسين الخطيب (المعروف بـ"أبو حسين الأردني")، وعبد العزيز داوود خدابردي (المعروف بـ"أبو محمد تركستان")، وعمر محمد جفتشي (المعروف بـ"مختار التركي"). وقد أثار هذا التوجّه الأحادي، لا سيّما في البنية الأمنية والعسكرية، مخاوف متزايدة من إعطاء الولاء أولوية على حساب الكفاءة في التعيينات، ما أطلق تساؤلات جدّية حول الطابع الوطني للجيش الجديد. كما عبّرت أطراف إقليمية ودولية عن قلقها حيال تعيين عدد من المقاتلين الأجانب في مواقع قيادية داخل الجيش السوري، نظرًا لما قد يترتب على ذلك من تداعيات على أمن دول الجوار، خاصة أن بعض هؤلاء الأفراد لديهم ماضٍ متطرف وانتماءات سابقة لتنظيمات إرهابية دولية. وتأتي هذه التطورات في ظل واقع أمني شديد التشظي، تُشكّله فصائل مسلحة متعدّدة الولاءات والأيديولوجيات، مما يزيد من تعقيد المشهد ويجعل مسألة بناء جيش وطني جامع تحديًا بالغ الصعوبة.
تحديات أمام نهج القيادة السورية في بناء الجيش
يعتمد النهج المُتّبع من قِبل القيادة السورية في تأسيس وبناء الجيش السوري الجديد على استراتيجية "الدمج من الأعلى إلى الأسفل". فبدايةً، تم تشكيل وزارة الدفاع بهيكل قيادة مركزي، ثم أُعلن رسميًا عن حلّ الفصائل المسلحة القائمة، وعلى رأسها "هيئة تحرير الشام"، ودمجها تحت مسؤولية الوزارة. غير أن هذا النهج يواجه تحديات عدّة قد تعرقل إنشاء مؤسسة وطنية وهيكل قيادي مركزي فعّال، لا سيما في ظل عاملين رئيسين:
أولًا، مدى قدرة الوزارة على إذابة الانقسامات الداخلية بين الفصائل المختلفة تحت مظلتها؛ وثانيًا، تأثير هذا النموذج من الدمج على ثقة بعض مكونات المجتمع السوري، مثل الأكراد والدروز والعلويين، إلى جانب مكونات أخرى فضّلت حتى الآن اتخاذ موقف سلبي من المشاركة السياسية والأمنية، كالمسيحيين والإسماعيليين.
وفيما يخص العامل الأول، يمثّل دمج الفصائل ضمن الجيش الجديد تحديًا متعدد الأوجه. فهؤلاء المقاتلون ينحدرون من خلفيات متباينة، ويملكون دوافع متغايرة للقتال، كما شارك العديد منهم في مراحل مختلفة من الصراع السوري المعقّد، وما تخلله من انتهاكات وحشية. وهذا يُثير تساؤلات بشأن مدى التزام القيادة الجديدة بإنشاء آليات تدقيق صارمة وفعّالة، قادرة على فرز واستبعاد الأفراد المتورطين في جرائم حرب أو انتهاكات لحقوق الإنسان، سواء في الماضي أو في الوقت الراهن.
كما يُطرح تساؤل آخر لا يقل أهمية حول مدى رغبة تلك الفصائل في الالتزام بهيكل الجيش الجديد وقرارات وزارة الدفاع، أو إذا ما كانت تسعى للاحتفاظ باستقلاليتها الجزئية داخل إطار دمج شكلي. وتُحيط بهذه المسألة شكوك كبيرة، خاصة في ضوء التجربة الحالية؛ فعلى الرغم من التصريحات العلنية المتكررة بشأن توحيد القوات تحت مظلة وطنية موحّدة، تشير دلائل قوية إلى وجود فجوة حقيقية بين الخطاب الرسمي والواقع الفعلي على الأرض، وتكشف عن اختلال بنيوي يعوق جهود الحل والدمج.
يتجلّى هذا التناقض في عدة مظاهر. فعلى سبيل المثال، وافق "الجيش الوطني السوري"، المدعوم من تركيا، والذي يُقدّر عدد مقاتليه بنحو 29 ألفًا، على الانضمام شكليًا إلى وزارة الدفاع، إلا أنه لا يزال يقاوم عملية الاندماج الكامل، ويحتفظ بقدر كبير من استقلاله العملياتي. إذ يواصل تنفيذ عمليات عسكرية مستقلة ضد القوات الكردية، وتورطت العديد من فصائله في أنشطة غير مصرح بها، من ضمنها النهب وانتهاكات لحقوق الإنسان، خصوصًا في المناطق ذات الأغلبية الكردية. كما لعبت بعض هذه الفصائل أدوارًا مثيرة للجدل في أعمال عنف طائفي، خاصة في المناطق الساحلية.
وبذلك، يبقى الدمج حتى الآن إجراءً نظريًا أو "رمزيًا" في ظل إشكاليات أعمق تتجاوز الجوانب الإجرائية، وذلك نتيجة لجملة من العوامل، أبرزها:
1- الاختلافات والخلافات الأيديولوجية العميقة بين مختلف الفصائل المسلحة المنضوية تحت مظلة وزارة الدفاع، وتباين ولاءاتها ومرجعياتها، مع احتفاظ كل فصيل بسردية ومظلومية تاريخية خاصة به.
2- دمج الفصائل مع الإبقاء على كياناتها وهياكلها التنظيمية، كما هي؛ فعلى سبيل المثال، "لواء السلطان سليمان شاه (العمشات)" أصبح "الفرقة 25 حماة"، فيما "فرقة الحمزات" بقيادة المدعو سيف أبو بكر أصبحت "الفرقة 76". ما يدل على أن القيادة الجديدة تتعامل مع عملية الدمج على أنها دمج كُتل تنظيمية وليس أفرادًا، رغم أن دمج الأفراد وتأهيلهم يعدّ أكثر فاعلية من الناحية المؤسساتية.
3- استمرار اعتماد الفصائل على اقتصادات غير مشروعة، وتلقيها دعماً مالياً ولوجستيًا من مصادر خارجية، لا سيما "الجيش الوطني السوري" الذي لا يزال يتلقى دعماً مباشراً من تركيا.
4- الحاجة إلى إعادة بناء البنية التحتية العسكرية التي تضررت بشدة جرّاء سنوات من الحرب والضربات الإسرائيلية المتكررة والمكثفة. وهي مهمة لوجستية ومالية ضخمة تُواجهها الحكومة في ظل اقتصاد منهار، ما يفرض قيودًا صارمة على جهود إعادة تجهيز وتحديث القوات المسلحة، ويجعل المساعدات الدولية ضرورية، وإن كانت قد تصبح مصدرًا محتملاً للتبعية.
أما من حيث الرضى الشعبي والمجتمعي، فهناك عدم توافق عام حول السياسات المتّبعة من قبل هيئة تحرير الشام بعد تسلّمها زمام السلطة، خصوصًا في الجانب العسكري. إذ تسود مخاوف كبيرة بين مكونات الأقليات بشأن الدور المهيمن للهيئة، واحتمالية إقامة نظام استبدادي لا يضمن حماية حقوقهم أو مصالحهم. وقد زادت هذه المخاوف نتيجة الاعتماد الواضح على معيار الولاء في التعيينات، وهيمنة الهيئة على المشهد الأمني والعسكري. كما يثير دمج أفراد يحملون أيديولوجيات متطرفة وارتباطات سابقة مع شبكات إرهابية عابرة للحدود، تساؤلات حول هوية الجيش الجديد واحتمالية تحوّله إلى جيش أيديولوجي صرف.
وقد شكّل ضعف إدماج الأقليات وتنوعها في بنية الجيش السوري نقطة ضعف رئيسة. ومع ذلك، لا يمكن فصل هذه الحالة عن السياقات البنيوية الأوسع، سواء من حيث الإرث الطائفي داخل الجيش السابق، أو النظام الاقتصادي الاشتراكي الذي حكم سوريا لعقود. فقد انعكست هذه السياقات على طبيعة المجتمع السوري، إذ عُرف عن الطوائف السنية والكردية والمسيحية عزوفها عن الخدمة الطوعية في الجيش، في حين فرض النظام السابق على المُكون العلوي خيارين شبه إلزاميين لتأمين المعيشة: إما الالتحاق بالجيش أو الوظيفة العامة.
إضافة إلى ما سبق، هناك تباين في الرؤى بين الفاعلين السوريين حول النموذج الأنسب لبناء الجيش الجديد. فمثلًا، اقترحت "قوات سوريا الديمقراطية (قسد)" نموذجًا مختلفًا، كشرط لانضمامها، يتمثل في اعتبارها كيانًا شبه مستقل، يحتفظ بهياكله الخاصة تحت إشراف الحكومة المركزية، على غرار تجربة "قوات البيشمركة" في العراق. غير أن هذا المقترح قوبل برفض شديد من الحكومة المؤقتة.
وفي الواقع، ترتبط الإشكاليتان السابقتان – ضعف الدمج وضعف التمثيل المجتمعي – ارتباطًا مباشرًا بتأثير الجهات الخارجية الفاعلة. فتركيا، من جهتها، تسعى لإنشاء قواعد عسكرية في سوريا دون الاصطدام بإسرائيل، وتمارس ضغطًا متواصلًا على "قسد" دون استفزاز الولايات المتحدة، وتضغط في الوقت نفسه لدمج "الجيش الوطني السوري" في البنية الجديدة مع الحفاظ على استقلاليته النسبية بما يخدم مصالحها.
أما روسيا، فلا تزال تحتفظ بوجود عسكري فاعل، وتسعى إلى تمديده، خاصة في المناطق الساحلية، ما يزيد من تعقيد المشهد الأمني. كما تواصل إسرائيل شن ضربات عسكرية تُسفر عن أضرار جسيمة، وتمارس سياسة تهدف إلى فرض جغرافيا حدودية خالية من التهديدات، ولكن دون إغراق المنطقة في فوضى كاملة. ويُترجم هذا التوجه في تفضيلها لقيام دولة سورية ضعيفة، منزوعة السلاح.
من جيش عقائدي إلى جيش أيديولوجي
ارتبط الجيش السوري السابق بشكل وثيق بالأيديولوجية الخاصة بحزب البعث الذي شكل عماد حكم آل الأسد. فلم يقتصر دور الجيش على الدفاع عن حدود الدولة وسيادتها من التهديدات الخارجية، بل تعداه ليكون أداة سياسية وعقائدية تضمن حفظ النظام السابق وبقاءه. وحاليًا، هناك مخاوف من نموذج مماثل، لكن مع فارق استبدال عقيدة الجيش من أيديولوجية سياسية حزبية إلى أخرى "مذهبية" تستند إلى هيئة تحرير الشام وأيديولوجيتها، خاصة من جهة مخاوف عدم تخليها عن "السلفية الجهادية"، لا سيما في ظل النفوذ الذي يكتسبه المقاتلون الأجانب في الجيش الجديد، إلى جانب تصريحات المسؤولين في الحكومة المؤقتة، والإعلان الدستوري في 13 مارس 2025، والانطلاق من الشريعة الإسلامية كأساس للحكم، موجهين بذلك مسار إنشاء الجيش الجديد.
وفي الواقع، فإن اتباع هذا النموذج وترسيخ الطابع الأيديولوجي للجيش الجديد، يترتب عنه تداعيات محلية وإقليمية ودولية. فمن جهة، يطرح هذا النموذج شكوكًا حول قدرة قادة الجيش على ضبط الأفراد في الجيش، ويؤثر على استقرار المؤسسة العسكرية. ونتيجة لهذه الحالة، حدثت المجازر في الساحل السوري في الفترة من 6 إلى 10 مارس 2025، وعمد كل فصيل إلى إلقاء اللوم وتحميل المسؤولية إلى أطراف أخرى، ناهيك عما كشفت عنه تلك العملية من ضعف التنسيق والتواصل بين الفرق والألوية حديثة التشكيل. كما ينفي المبررات الوطنية بشأن استبعاد المقاتلين الأجانب، خاصة من المناصب القيادية. وما ينعكس عن ذلك، من تعزيز المخاوف لدى المكونات السورية الأخرى، ويدفعها لمزيد من العزوف عن المشاركة فيه، لا سيما من أهالي المكون السني، الذي لا توافق أكثريته على تلك الأيديولوجيات. بل ويغلق الباب أمام ملايين السوريين اللاجئين المتوقع عودتهم إلى البلاد، والذين نشأوا في بلدان ليبرالية، ومنهم من يفضل تكرار النماذج الغربية في سوريا.
كما سيكون للطابع الأيديولوجي للجيش السوري حال رسوخه ووضوحه، تداعيات تجاه دول الجوار لسوريا، وإن جاءت تلك التداعيات بشكل متفاوت في حسابات تلك الدول. فمن جهة، ترغب الدول العربية جميعها في الوصول إلى سوريا معتدلة، ومشابهة لبقية الدول، وعدم ظهورها كنموذج قد يعزز من المناكفات والاستقطابات السياسية، أو يعيد الإقليم إلى تحالفات متنافسة فيما بينها. وصحيح أن الدول العربية سارعت إلى التقارب مع السلطة الناشئة في دمشق منذ اللحظات الأولى لتغيير النظام، بعدما شكل إفساح النظام السابق المجال واسعًا لإيران لتعزيز نفوذها في البلاد، وما ترتب عنه من تهديدات متعددة وهجينة على الدول العربية، إلا أنها لا ترغب أيضًا بنموذج آخر يُستبدل فيه النفوذ من الإسلام السياسي الشيعي إلى السني. فقد سبق أن جربت المنطقة مساوئ ذلك، سواء في صعود الإسلاميين بعد ما يُعرف بـ "الربيع العربي" في دول عدة، أو تنامي التنظيمات الإرهابية وسيطرة "داعش" على مناطق واسعة من العراق وسوريا حتى عام 2018. وبذلك، فإن قلق الدول العربية هذا يجب أن يُؤخذ بعين الاعتبار في عملية تأسيس الجيش الجديد، وخلاف ذلك قد تبتعد تلك الدول عن مشاركة تجاربها العسكرية مع الجيش الجديد، أو المساهمة في إنشاء هيكله وعقيدته، واللذان يتطلبان خبرة واسعة قد لا تتوفر لدى السلطة الحالية في سوريا.
إضافة إلى ذلك، هناك موقف إسرائيلي واضح برفض مشاركة حدوده مع قوة ذات توجه أيديولوجي. وقد سارعت إسرائيل فور تغيير النظام إلى توسيع المنطقة العازلة ومحاولة تأسيس عمق آمن في الجنوب السوري عبر التقرب مع عدد من مشايخ المكون الدرزي، بذريعة تقديم الحماية لهم. وهذه الاستراتيجية تنطوي على خطر متأصل يتمثل في تعزيز عدم الاستقرار على المدى الطويل وخلق فراغ في السلطة يمكن أن تستغله فواعل أخرى في المنطقة. ورغم تغير الخطاب الإسرائيلي بعض الشيء حيال السلطة في دمشق، إلا أن التدخل العسكري الإسرائيلي المستمر في سوريا، رغم الإدانة الدولية الواسعة، يظلُّ يشكل تحديًا كبيرًا ومباشرًا لجهود الإدارة الجديدة لبسط سيادتها وإعادة بناء القوات المسلحة.
أما على المستوى الدولي، الذي يعتبر دوره حاسمًا في دعم إعادة بناء الجيش السوري، لا سيما في ظل الحاجة إلى مساعدة دولية منسقة لتوفير الموارد المالية اللازمة وبرامج التدريب والمعدات اللازمة للقوات المسلحة الجديدة. فذلك يأتي بعد الإيفاء بما لدى الدول الغربية من متطلبات واشتراطات في مقدمتها أن يتناسب الهيكل العسكري مع هياكل الدول الغربية العسكرية وإن كان ذلك بشكل نسبي، بالإضافة إلى توفر آليات للمساءلة والرقابة العسكرية والمدنية على الجيش، وذلك لمنع إساءة استخدام المساعدات أو استغلالها في زعزعة الاستقرار في داخل البلاد وخارجها، إلى جانب مدى توفر برامج التدريب والتعليم الشاملة التي تركز على المهنية وحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي الضرورية لبناء قوة مسلحة حديثة وفعالة.
وأخيرًا، فإن إعادة بناء الجيش السوري ليست مهمة عسكرية فحسب، بل هي عملية معقدة تشمل المصالحة الوطنية وموازنة المصالح الإقليمية. وبالرغم من كونها مهمة معقدة بشكل استثنائي، وهو ما يجعلها عملية محفوفة بالعديد من التحديات والمخاطر. وفي الواقع؛ يُمكن لتشكيل الجيش السوري بالشكل الصحيح أن يؤسس لعملية انتقالية سلمية وناجحة إذا ما عكس في تركيبته المجتمع السوري بكافة مكوناته، وأن يؤدي دورًا في معالجة الإشكاليات المتعددة على مستوى العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين المكونات المتعددة داخل المجتمع، وأن يمثل نهجًا تشاركيًا يمثل الدولة والشعب معًا. وبخلاف ذلك قد تترتب تداعيات محلية وإقليمية كبيرة.

ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات