أين علماؤنا؟

لا شك أن تاريخ بلادنا السياسي لعب دوراً كبيراً في جمودنا العلمي، منذ الحكم العثماني، الذي استأثر بالعلوم وحصرها بعاصمته إسطنبول، وإهماله المتعمد للعلم والتعليم في المناطق والمدن العربية التي حكمها. وكذلك الأمر في فترة الاستعمار الأوروبي، فاحتلاله لبلداننا جعلنا نرفض كل ما قدمه، حتى في جزئه المفيد، فلم يتحسن وضعنا العلمي رغم تأسيس عدة جامعات عربية (إلى جانب المؤسسات التعليمية التي أسستها الحملات التبشيرية في نهايات الحكم العثماني لغاياتها السياسية).

الكاتب حسن إسميك
  • تاريخ النشر – ١٨‏/٠٣‏/٢٠٢١

قد يكون التاسع من شباط/فبراير 2021 يوماً عادياً لدى البعض، إلا أنه يوم مفصلي في التاريخ العربي، ففيه حققت دولة الإمارات العربية المتحدة حلماً لطالما راود العرب، وهو وصول أول مسبار عربي «مسبار الأمل» إلى مدار كوكب المريخ، ما يضع الإمارات (الدولة الأولى عربياً) في نادي الدول المتقدمة المستكشفة للفضاء.

لكن للأسف، لا يعبِّر هذا الإنجاز الإماراتي عن واقع العلم والتكنولوجيا في أغلب الدول العربية، التي تشهد فيها العلوم تردياً واضحاً، ويتراجع الاهتمام بالبحث العلمي والعلماء فيختار معظمهم الهجرة، وتحتكر الدول باقي ما تبقى منهم فيقتصر عملهم على أمور العسكرة والتسليح، والتي –ورغم أهميتها في بعض الحالات– إلا أنها لا تصنع تنمية ولا تبني دولاً.

لعل أوضح معالم هذا التردي هو الغياب شبه التام لجامعاتنا العربية عن التصنيف العالمي لأهم المؤسسات التعليمية، بالمقارنة مع دول تصغرنا بالمساحة وعدد السكان، ناهيك عن أننا لا نرى أسماء عربية حازت على جائزة نوبل في أي مجال علمي، اللهم ماعدا الدكتور أحمد زويل من أصول عربية. هذا الواقع ليس وليد هذه اللحظة، بل هو نتاج لتراكمات على مدى عقود طويلة، تدفعنا بالضرورة إلى العودة للوراء لنجيب عن السؤال الملح: لماذا وصلنا إلى هذه الحالة من التخلف والترهل؟

لا شك أن تاريخ بلادنا السياسي لعب دوراً كبيراً في جمودنا العلمي، منذ الحكم العثماني، الذي استأثر بالعلوم وحصرها بعاصمته إسطنبول، وإهماله المتعمد للعلم والتعليم في المناطق والمدن العربية التي حكمها. وكذلك الأمر في فترة الاستعمار الأوروبي، فاحتلاله لبلداننا جعلنا نرفض كل ما قدمه، حتى في جزئه المفيد، فلم يتحسن وضعنا العلمي رغم تأسيس عدة جامعات عربية (إلى جانب المؤسسات التعليمية التي أسستها الحملات التبشيرية في نهايات الحكم العثماني لغاياتها السياسية).

وفي فترة لاحقة، وبعد نيل العديد من الدول العربية لاستقلالها وبروز الدول الوطنية، كان هناك رغبة حقيقية لتغيير هذا الواقع، ووُضعت برامج «طموحة» على المستويين التعليمي والاقتصادي، لكن ظلت الدول هي المسيطرة على هذا البرامج وعلى مخرجاتها بالعموم، فلم تستطع وقف التراجع العلمي ولا الهجرة الكبيرة للعديد من العلماء والكوادر الأكاديمية إلى الدول الغربية، وبقي الحال على ما هو عليه إلى وقتنا الحاضر.

إذا أردنا توصيف قطاع العلوم والبحث والتطوير في العالم العربي، ستغلب السلبيات على الإيجابيات طبعاً، من قبيل: تراجع بيئة البحث العلمي داخل الجامعات العربية وعدد مراكز الأبحاث التي تحتضن الكوادر العلمية، وقلة المختبرات وعدم توفير الموارد واللوجستيات الضرورية، وضعف النشر والدوريات العلمية المحكَّمة، والترهل والبيروقراطية الإدارية للمؤسسات العلمية والأكاديمية، وعدم اختيار الأشخاص الأكفاء لإدارتها. بالإضافة إلى أن هذه المؤسسات لا تتمتع بالاستقلالية الكافية عن سلطة الدولة، واللازمة لتقوم بمهامها العلمية بالشكل الأمثل.

كما تكثر حالات الفساد والمحسوبية في التدرجات العلمية، وكثيراً ما تعطى درجات علمية لغير المستحقين، بالإضافة إلى الافتقار إلى بيئة علمية عقلانية حقيقية تقيّم العالم والباحث والأكاديمي على أساس إنجازاته لا على أساس انتماءاته الضيقة وآرائه السياسية.

يضاف إلى المشاكل السابقة ضعف المردود المادي للعلماء والأكاديميين لقاء جهدهم ومعارفهم، والناتج بشكل رئيسي عن رفض بعض الدول مساهمة القطاع الخاص في دعم للبحث العلمي. بالإضافة إلى وجود نظرة سائدة، وهي أن الإنفاق على التعليم ودعم مراكز الأبحاث، يعد خسارة وإنفاقاً غير مجدٍ، والدليل على ذلك، النسب من الموازنات المخصصة للإنفاق على البحث العلمي، والتي تزداد هزالتها إذا ما قورنت بدول مجاورة مثل إسرائيل تركيا وحتى إيران، هذا دون الحديث عن الفروقات من ناحية عدد الأبحاث العلمية المنشورة أو مستوى الجامعات أو عدد مراكز الدراسات والأبحاث.

لعب الواقع السياسي والأزمات وعدم الاستقرار على الصعيدين الداخلي والإقليمي دوراً كبيراً في تراجعنا العلمي، لأنه –نظرياً على الأقل– دفع الدول نحو احتكار البحث العلمي ومراكز الأبحاث والدراسات والكوادر العلمية العاملة فيها، وتوجيهها نحو الأمور الدفاعية. ما استنزف النسبة العظمى من الإنفاق المخصص للبحث العلمي (دون أن نحتسب الهدر والفساد) على حساب البحوث العلمية المخصصة لتطوير القطاعات الزراعية والصناعية والتكنولوجية..

ترسم معالجة السلبيات الواردة سابقاً خارطة الطريق للنهوض بواقع العلوم والتطوير في بلداننا العربية، ومن يقول إنَّ هذا أمر بالغ الصعوبة وعصي على التطبيق، أقول له: عندما نبدأ السير، لا بد أن نصل إلى الوجهة أو نقترب منها، ولا يتحقق أي نجاح دون تكبد مشقة.

وإذا ما أردنا أن نضع ركائز لخارطة الطريق هذه فهي تقوم على عمودين رئيسين هما السلام في السياسة والليبرالية في الاقتصاد، فالأول يؤمن الاستقرار وهو عماد التنمية الحقيقية للمنطقة العربية ككل، ويضمن أن يتم توجيه الإنفاق العلمي نحو القطاعات البناءة. أما الليبرالية فتعطي صانع القرار المرونة والحرية في التعاطي مع المشاكل بشكل عملي، بعيداً عن البيروقراطية والتعقيدات الإدارية، وتخلق التكافؤ في الفرص العلمية وتجعل التقييم العلمي مبنياً على أسس حقيقية وصحيحة وبعيداً عن أي تحيز.

الليبرالية تعني الانفتاح وتعني تغيير النهج والعقلية السائدة، التي تقول بأن الدولة مسؤولة عن كل شيء، فلا بد للقطاع الخاص من أن يكون شريكاً في مختلف مفاصل الحياة بما فيها البحث العلمي، فيعطيه دفعةً حيوية للأمام، ويخلق الحافز المادي للكوادر العلمية، ويربط البحث العلمي بالواقع العملي وبحاجات السوق والاستثمار.

كما يجب أن يتم العمل لرفع أجور البحث العلمي ومكافآته وحوافزه لثني العالِم العربي عن ترك بلاده واللجوء إلى الغرب أو الشرق الأقصى بحثاً عن الاكتفاء المادي، ليستطيع الاطمئنان من جهة توفير لقمة العيش ويوجه كامل جهده نحو البحث والإنتاج العلمي، وفي الوقت نفسه يجب تطوير المؤسسات التعليمية ودعمها من قبل الحكومات والقطاع الخاص على حدٍّ سواء لتكون قادرة على تأمين بيئة مجهزة ومحفزة للعمل والإنتاج العلمي، وفي النهاية لا بد من اعتماد مبدأ المساواة وعدالة الفرص ليتم تقييم الباحث على أساس منجزاته لا انتمائه، فيُعطى الدرجة التي يستحقها والمكانة التي هو أهل لها.

في الختام أود فقط أن أورد المعلومة التي دفعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع، والتي تقول: «إنَّ أكثر من 90% من مجمل العلماء الذين مروا على البشرية ما زالوا على قيد الحياة اليوم، وهذه حقيقة قائمة منذ ما يقرب من 300 عام»، ما يعني أن أعداد العلماء في العالم في تزايد مستمر حتى لو كنا نجهل معظمهم، لأن الشهرة في المجال العلمي بالعموم تتولد نتيجة «البجعات السود» أما التقدم العلمي اليوم فقد بات مبنياً على تراكم المعارف. لكن حتى على مستوى «الشهرة»، عندما تفكر بالعلماء البريطانيين مثلاً قد يخطر ببالك ستيفن هوكينغ قبل إسحق نيوتن مكتشف الجاذبية ذاته، في حين لا يتبادر إلى ذهن أي منا عند التفكير بالعلماء العرب سوى ابن سينا وابن النفيس والخوارزمي وابن حيان والرازي والبيروني.. وكأن عجلة العلم توقفت في بلداننا منذ أكثر من ألف عام!

لقد أدرك أجدادنا أهمية العلم وعرفوا أنه عماد الحضارة وأساس استدامتها، فأولوه من الاهتمام الكثير، وعلينا نحن أيضاً أن نضع هذه الحقيقة نصب أعيننا، لأننا بالعلم وحده سنحقق الأمن والاستقرار والتنمية على مختلف الصعد، لنستعيد ولو بعضاً من ألقنا الضائع يوم كنّا منارة في العلوم والحضارة والانفتاح.

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS