أفغانستان الطالبانية: المستقبل والتداعيات على الإسلام السياسي
تقيم هذه الورقة الأشهر الأولى من حكم طالبان، مستعرضةً عناصر القوة والضعف التي أظهرتها الحركة حتى أواخر 2021. كما استشرفت الورقة مستقبل وطبيعة استمرارية سيطرة طالبان على أفغانستان، وتداعيات هذه الاستمرارية على المشهد الدولي للإسلام السياسي
الكاتب ستراتيجيكس
- الناشر – STRATEGIECS
- تاريخ النشر – ٢٦/١٢/٢٠٢١
هذه الورقة جزء من سلسلة: الإسلام السياسي تحت المجهر
سيطرت طالبان على أفغانستان في وقتٍ تراجع معه حضور أحزاب الإسلام السياسي في الشرق الأوسط، حيث هوى حزب العدالة والتنمية في الانتخابات النيابية المغربية التي جرت في سبتمبر 2021 إلى المركز الثامن (13 مقعد) بعد أن احتل في انتخابات 2016 صدارة المتنافسين بـ 125 مقعد. وفي تونس أعلن الرئيس التونسي، قيس سعيد، حزمة إجراءات طارئة أهمها تجميد أعمال البرلمان بعد الجمود الذي وصلته الحياة السياسية في البلاد، لينهي بذلك سيطرة حركة النهضة على السلطة. أما في العراق لم تسفر الانتخابات النيابية عن إحراز المرشحين المقربين من "الاخوان المسلمين" أي مقاعد تذكر.
ولذلك شكّل تمدد حركة طالبان في أفغانستان بارقة أمل في لحظة ضعف لمؤيدي الإسلام السياسي، حيث احتفوا بهذا النصر متفائلين بانعكاس الأوضاع في أفغانستان على الشرق الأوسط الأوسع، وهذا الطرح يبدو مبالغاً به ومن المبكر أيضاً التنبؤ به، فطالبان لا تزال في خطاها الأولى كتنظيم سياسي يتولى إدارة الشؤون العامة بعد عقود من التصرف كحركة تمرد مسلح، بعد تجربة للحكم في الفترة من 1996 إلى 2001 –انتهجت خلالها منطق القرون الوسطى في إخضاع السكان دون الاكتراث لاحتياجاتهم المعيشية.
وهذه الورقة البحثية تستعرض تجربة الأشهر الأولى من حكم أفغانستان للتمهيد للإجابة على السؤالين التاليين:
1) ما هي السيناريوهات الرئيسية لمستقبل أفغانستان الطالبانية؟
2) كيف تنعكس هذه السيناريوهات على المشهد العام للإسلام السياسي السني؟
التقييم
تُظهر طالبان مرونة وصلابة في حكم البلاد، فهي من جهة امتلكت جرأة في إصدار تصريحات تغاير الصورة النمطية المرسومة في الأذهان عنها، ومن جهة أخرى لا تتسامح مع انتهاك أوامرها ومخالفة تفسيراتها الشرعية.
ولأن غاية أي نظام سياسي هي البقاء "Survivability" بالوسائل السياسية، فإن أمام حكومة تصريف الأعمال الأفغانية مسار طويل من إعادة التأهيل لبلادٍ ورثتها مفككة البنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي سبيل هذا المسار ثمة أوراق قوة تمتلكها الحركة قد تمكنها إن أحسنت توظيفها من تقليص الكلف وتعظيم المكاسب، في المقابل تواجه حكومة تصريف الأعمال الحالية تحديات "وجودية" يتعين عليها التعامل معها تجنباً لسيناريوهات قصوى سيتم استعراضها خلال هذه الورقة.
يظهر تحليل نقاط الضعف والقوة خلال الأشهر الأولى لحكم طالبان مايلي:
نقاط الضعف:
1- انهيار الاقتصاد المجتمعي في البلاد: ليس خافياً على متابعي الشأن الأفغاني حجم المعاناة الاقتصادية التي يعيشها الشعب الأفغاني، والتي يمكن التدليل عليها فيما جاء في جلسة حوارية أجراها في نوفمبر 2021 مركز "Wilson" حيث قفزت أعداد الجوعى في البلاد من 14 مليون في أغسطس إلى 23 مليون والأعداد مرشحة للزيادة مع دخول فصل الشتاء وما تحمله التغيرات المناخية من موجات صقيع.
ونظراً لتجميد الأصول الأفغانية لدى الاحتياطي الفدرالي الأمريكي البالغة 7 مليار دولار، ولتعليق عمل الصندوق الاستثماري لإعادة اعمار أفغانستان – يُدار من البنك الدولي ويساهم بـ30٪ من الميزانية الأفغانية – فإن العملة الأفغانية تقترب من الوصول إلى حالة "السقوط الحر" المشابهة لما يجري في دول مثل فنزويلا وسوريا ولبنان وإيران، فقبل سيطرة طالبان على الحكم كانت العملة الأفغانية تتداول عند 77 للدولار، ووصلت منتصف ديسمبر إلى 125 للدولار.
وهذه الأزمة النقدية دفعت المسؤولين الاقتصاديين إلى تقييد حركة سحب العملات الأجنبية من البنوك الأفغانية؛ الأمر الذي يجعل من بقي من المنظمات الإغاثية في أفغانستان في طور التعطيل، ناهيك عن عزل أفغانستان عن النظام الاقتصادي الدولي لصعوبة وجود كيانات اقتصادية "تغامر" في إجراء تعاملات تجارية مع أفغانستان.
2- تشكيل حكومة غير تمثيلية: رغم الأجواء الإيجابية الحذرة التي سعت الحركة إلى بثها للعالم وللأفغان بعد سيطرتها، إلا أنها شكلت حكومة تصريف أعمال "ضيقة" تخلو ممن هم خارج فلك طالبان السياسي والأيديولوجي، لا بل ضمت الحكومة أشخاص على قائمة العقوبات الأمريكية، وأُسند الملف الأمني إلى قيادات في شبكة حقاني المصنفة إرهابية.
ويكشف فحص أعضاء الحكومة أنهم يفتقرون إلى الخبرة البيروقراطية لتيسير الأمور الحكومية، فكثير منهم لم يمارس عملاً حكومياً ولم يتدرج في إدارة الشؤون العامة، مما يجعل الحركة بحاجة ماسة إلى الاستفادة من خبرات الموظفين التقنيين في الحكومة السابقة.
وهذه الحكومة – أو بالأحرى منظومة ما بعد 2001 السياسية – لم تبنِ نظام إداري فعال، وبالتالي يتعين على الحركة الشروع في مسار "إعادة اعمار شامل" لا يقتصر على البنيان المادي وإنما يمتد ليطال كل مظاهر الحياة، وهو ما تزال الحكومة الأفغانية في خطواتها الأولى لإتمامه، هذا بالطبع ما لم تحدث انتكاسة تزيد من اختلالات الساحة الأفغانية.
3- الديمغرافية المسلحة: يبلغ عدد سكان أفغانستان قرابة 40 مليون نسمة، وتتمايز مكوناتها الديمغرافية على أسس قومية وعرقية ودينية، وتعد عرقية البشتون العمود الفقري لطالبان وتمثل 40٪ من عدد السكان، وفي الشمال تسيطر قومية الطاجيك ديمغرافياً على هذا النطاق الجغرافي المحاذي لأربع دول: الصين، وأوزباكستان، وطاجيكستان وتركمانستان. وأيضاً هنالك حضور ديمغرافي للشيعة عبر عرقية الهزارة الذين يشكلون 9٪ من عدد السكان.
وتأثرت سرعة بسط طالبان لنفوذها على الولايات الأفغانية تبعاً لهوية سكانها، وكان آخر هذه الولايات ولاية بنجشير التي تعني في اللغة الطاجيكية "الأسود الخمسة"، وظلت هذه الولاية عصية على طالبان إبان حكمها الأول (1996-2001)، وقد جعلتها تضاريسها الجبلية حصناً منيعاً ونقطة انطلاق للإطاحة بحكم طالبان عام 2001 بدعم من التحالف الدولي.
والمكونات الديمغرافية المغايرة للبشتون تنتشر في أطراف البلاد، مما يجعل من السهل على أطراف خارجية تسليحها لتحقيق مآرب معينة عبر الجغرافية الأفغانية، كما أن هذه المكونات لا تزال تتوجس – بالحد الأدنى من التوصيفات – من حركة طالبان متأثرةً بخلفيتها الأيديولوجية وماضيها السياسي الذي تدعي الحركة أن حاضرها يختلف عنه.
إلا أن بعض المظاهر والحوادث العنيفة تعيد التأكيد على استمرارية هذا الماضي، كإعدام الحركة 13 أفغاني من أقلية الهزارة أواخر أغسطس، 11 منهم من قوات الأمن الأفغانية ومدنيان، كما تعاني الحسينيات من عمليات إرهابية يتبناها تنظيم داعش وفرعه "خراسان"، وحتى لو كانت الحركة والتنظيم قد دخلا في طور "العداء العملياتي" إلا أن الروابط الأيديولوجية والتعاطف "الأخوي" تقللان من حدة هذا العداء الذي لا يقتنع كثير من الأفغان بوجوده حقيقةً.
4- الهوية الملتبسة: لا تستطيع طالبان نزع ردائها الأيديولوجي، حتى لو كان تيارها السياسي يوصي بانتهاج منطق براغماتي في التعامل مع القضايا الداخلية والخارجية، فهنالك تيار عسكري وأمني في الحركة تسيطر عليه شبكة حقاني وقيادات أصولية لا "تراوغ" عندما يتعلق الأمر بالقضايا الشرعية.
وبالإضافة إلى "التجنح" الذي تعيشه حركة طالبان بسبب سياساتها "الانفتاحية" نسبياً، فإن هنالك نوع من "الفراغ الأيديولوجي" يسارع "داعش" إلى ملئه عبر تجنيد مزيد من الإرهابيين واستقطاب أعضاء ومناصري الحركة الرافضين لسياسات طالبان الجديدة ظاهرياً.
وبفعل انسحاب القوات الأمريكية من البلاد، تمتلك الخلايا الإرهابية مرونة أكبر في التحرك والتصرف العملياتي، كما أن فوضى الانسحاب الأمريكي أدت إلى فتح السجون وفرار مئات الإرهابيين بعضهم مصنف خطير جداً كما حصل في سجن قاعدة باغرام الجوية الذي يضم قيادات تتبع لتنظيم القاعدة.
5- التنافس الدولي والروابط الخارجية المحدودة في ظل الاضطراب الدولي: تقع أفغانستان في قلب آسيا الوسطى ما يجعل منها حلقة وصل بين إقليمين مهمين في الحسابات الجيوستراتيجية الأمريكية: الشرق الأوسط والشرق الأقصى.
وتتحدث تقارير أمنية عن تطورات مرتقبة ستشهدها الحدود الأفغانية الصينية تتعلق بتسليط المجموعات الإرهابية على هذه الحدود، لا سيما وأن ملف إدلب في طريقه للحسم السياسي، وهو ما قد يؤدي إلى عمليات نقل للإرهابيين نحو هذه الحدود. جدير بالذكر أن نسبة من هؤلاء الإرهابيين ينتمون إلى أقلية الإيغور التي تحدثت تقارير أممية نفتها الصين عن تعرضهم لإجراءات قسرية فرضتها بكين.
وتزخر أفغانستان بالثروات الطبيعية التي ستزيد من التنافس الدولي فوق أراضيها، ومن أبرز هذه المعادن الليثيوم الجوهري في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية. ووفقاً لتقرير نشره موقع "Oil Price" في أغسطس 2021 فإن الثروات المعدنية غير المستغلة في أفغانستان تزيد عن ترليون دولار.
وهذا التنافس الأمني والجيو اقتصادي يتطلب وجود سياسة خارجية أفغانية تتمتع بروابط وقنوات اتصال مع مختلف الفاعلين الدوليين، وقد أوجدت سنوات المفاوضات شبكة خارجية "محدودة" لطالبان أساسها الدوحة وإسلام أباد وأنقرة، وهذه العواصم الثلاث بينها أيضاً نوع من التنافس الخجول لزيادة حضورها في أفغانستان.
عملياً تتمحور المواقف الدولية تجاه أفغانستان تبعاً للرؤية الأمريكية أو الصينية، فالأمريكية تهتم بالإرهاب الدولي العابر للحدود وباحتواء الصعود الصيني وبقضايا حقوق الانسان التي لا ينفك البيت الأبيض في عهد الرئيس الديمقراطي، جو بايدن، في تذكير النظام الدولي بهذه القضايا كمحرّك للتفاعلات الدولية وفق المنظور الأمريكي.
أما الصين فهي تهتم بعدم تمركز مجموعات إرهابية على حدودها، وبالتمهيد السياسي لاستثماراتها الاقتصادية المحتملة، فبكين تنتهج سياسة "عدم التدخل" في القضايا المحلية.
وما بين هاتين الرؤيتين، الأمريكية والصينية، فإن طالبان الأفغانية بحاجة إلى إدارة سياستها الخارجية دون أن تغضب طرفاً عبر التخندق تحت راية الطرف الآخر، وإلا ستظل الأزمات تتناسل دون أفق لحلها، وبناءً على تجربة الحركة فإن اتباعها نوع من الحياد الإيجابي يبدو مستبعداً، فالحركة لا تمتلك الأدوات والأوراق التي تمكنها من المناورة بين مختلف الفرقاء الإقليميين والدوليين.
6- افتقار الشرعية الدولية: إن التحدي الذي تم التطرق إليه في البند السابق ينبع من عدم اعتراف المجتمع الدولي قانونياً بشرعية سيطرة طالبان على أفغانستان، فدول العالم تكاد تجمع على أن هذا الاعتراف يأتي لاحقاً لإثبات طالبان أنها ممثلة لعموم الشعب الأفغاني وأنها قادرة على التصرف كمكون طبيعي في النظام الدولي.
ومُني هدف اكتساب الشرعية بانتكاسة بعد تشكيل حكومة تصريف الأعمال، فحتى حلفاء الحركة لم يرحبوا بهذه الحكومة واعتبروها "خطوة أولى" وجددوا مطالبتهم بأن تكون الحكومة شاملة وممثلة.
وتعد الشرعية الدولية أساس المعضلات التي تواجهها الحركة وهي الركيزة لترسيخ الحكم والانعكاس الفعلي لقدرة الحكومة الأفغانية على الوفاء بالتزاماتها تجاه الشعب والمجتمع الدولي.
7- جيل ما بعد 2001: لم يعاصر مواليد الألفية الثالثة حكمَ أفغانستان، ونشؤا في نظام تعليمي وإعلامي أفرزته المنظومة السياسية المدعومة من التحالف الدولي، مما يعني أن هؤلاء المراهقين والشبان يحملون "بذرة" التحرر والعلمانية ولا يكنّون خوفاً من سياسات الحركة مقارنةً بمن عاصر حكم طالبان السابق، كما أن وسائل التواصل الاجتماعي أسهمت في بلورة حالة من التعبير عن الرأي بعيداً عن قيود السلطة.
وهؤلاء الفتية المليئين بالحماس لهم مطالب معيشية تنموية أبسطها توفير فرص العمل، ولا يحبذون منطق وصاية السلطة السياسية والمجتمعية على أفكارهم، مما يجعل منهم عنصر ضاغط في وجه مرامي طالبان في السيطرة الهادئة دون الاضطرار للتصادم مع فئات سكانية.
وبالفعل ثمة مخاوف دولية من خسارة ما تراكم على صعيد الحقوق والحريات والثقافة في البلاد ما بعد 2001، ولا يعني ذلك أن تغيراً جوهرياً طرأ على مجمل هذه الصعد منذ ذلك الحين، فالبلاد لا تزال قبليةَ الطابع محافظةَ التوجهات، ولكن مراكز المدن الرئيسية تعتبر نقاط جذب لمن يرغب في نوع من الاستقلالية الفردية.
نقاط القوة:
1- الاعتراف الدولي عبر شرعية مكافحة الإرهاب: أمنياً أوفت طالبان حتى أواخر 2021 بتعهداتها في مكافحة الإرهاب وعدم تحول أفغانستان إلى بؤرة جديدة للإرهاب الدولي الذي يهدف إلى تصدير عملياته الإرهابية نحو الدول الغربية.
وقد تتمكن طالبان أخيراً من نيل الشرعية الدولية إذا ما أثبتت فعلاً أنها جادة على المدى المتوسط في مكافحة الإرهاب، سواء أكان ذلك عبر استهداف الخلايا الإرهابية أو عبر تبني منهج معتدل بعيد عن التطرف والإقصاء الديني والفكري الذي وسمَ تطور الحركة.
ومما يشجع الحركة في جهود مكافحة الإرهاب هو أن هنالك حالة من العزوف الدولي عن توظيف الإرهاب كورقة ضغط، فالجميع مقتنع أن مسار الإرهاب لا يمكن التكهن به وقد يرتد على "مشغّله" في بعض الظروف.
2- الموقع الجيوسياسي: على النقيض من نقطة ضعف رقم 5 "التنافس الدولي والروابط الخارجية المحدودة في ظل الاضطراب الدولي" يمكن للحكومة الأفغانية استغلال المزايا الجيوسياسية والاقتصادية التي تزخر بها البلاد لتحسين موقعها الإقليمي والدولي، فمن شأن اتباع سياسات متوازنة أن يحول أفغانستان إلى نقطة جذب بدل أن تكون بؤرة توتر.
3- الترِكة الأمريكية: بحوزة الجناح العسكري لطالبان "غنيمة" كبيرة من العتاد التابع للجيش الأمريكي وحلف الناتو بعد الانسحاب السريع الذي لم يمكّن المسؤولين العسكريين من إعطاب كافة المعدات العسكرية المتوسطة والثقيلة، كما استولت الحركة على كامل المخازن العسكرية التي كانت تابعة للقوات الأفغانية التي لم تخض أي قتال حقيقي في وجه تمدد الحركة.
ووفقاً لما جاء في تقريرين لهيئة "BBC" وصحيفة "Los Angeles Times"؛ بحوزة طالبان قرابة 2000 مركبة هامفي وأكثر من خمسين مركبة مدرعة بعضها مضاد للألغام، ومعظم الطائرات الـ167 التي كانت في أفغانستان حتى نهاية يونيو هي الآن تحت تصرف الحركة. ويقدّر خبراء عسكريون أن ثُلث ما أنفقته أمريكا على القوات الأفغانية -83 مليار دولار- وُجّه إلى المعدات العسكرية، مما يعني أن طالبان تمتلك عتاداً بالمليارات.
في المقابل يقلل خبراء من تداعيات هذه الحيازة، ذلك أن الحركة ينقصها الأفراد المؤهلين لتشغيل هذه المعدات، كما أن القيادة الوسطى الأمريكية "USCENTCOM" كشفت عن إعطاب الأجزاء الحساسة من الوحدات العسكرية المهمة وأنه لا يمكن الآن تشغيلها كمنظومة متكاملة.
بالطبع يظل خطر تسرب هذه الأسلحة إلى الأيادي الخطأ قائماً وهذه الأيادي قد تتبع لخراسان أو لجناح متمرد من طالبان يرغب في إعادة الأمور إلى نصابها، وفقاً لتفسيراته الفقهية و/أو ارتباطاته الخارجية.
4- ورقة المهاجرين: تعد أفغانستان دولة حبيسة، أي لا تمتلك أي منفذ بحري، أما جواً فمطار كابل الدولي شبه معطل في ظل مقاطعة شركات الطيران للحركة الملاحية من وإلى أفغانستان. وبالتالي لا منفذ رئيسي أمام الراغبين بالهجرة إلا عبر المنافذ البرية الرسمية أو عبر التسلل من الجيوب الحدودية.
وإن تفاقمت الأوضاع المعيشية والأمنية في البلاد، سيضطر كثير من الأفغان إلى اللجوء نحو الدول المجاورة، الأمر الذي يلقي بظلاله على كامل آسيا الوسطى وعلى الاستقرار الإقليمي والدولي برمته.
فأثبتت أزمة اللجوء السوري أن اللجوء يعد معضلة ديمغرافية وأمنية واقتصادية على الدول المضيفة، وحالياً تصنف الحدود البيلاروسية البولندية على أنها ساحة لتوتر "هجين" بسبب أمواج المهاجرين الذي تقول السلطات البولندية والغربية عموماً أنه وسيلة ضغط سياسية من الحكومة البيلاروسية وبإسناد روسي.
وحتى الآن لم يحدث إغراق باللاجئين الأفغان، ولكن يمكن لطالبان التلويح بهذه الورقة إن ساءت الأوضاع وتجذرت التحديات التي تواجهها.
"اللايقين هو اليقين الوحيد"
من الصعب التكهن بمسار ديمومة وطبيعة سيطرة طالبان على أفغانستان، فالبيئتين المحلية والخارجية مفتوحة على كل الاحتمالات، ووفقاً لما جاء في هذه الورقة البحثية، فإن نقاط الضعف تفوق نقاط القوة، وبعض من مكامن الضعف مزمنة يتعذر معالجتها على المدى القصير.
أمام هذه الواقع، سيراقب محركو الإسلام السياسي ومؤيدوه قدرة الحركة على الاستمرار، وسواء كان المهتم بالشأن الأفغاني متعاطفاً مع الحركة أم معارضاً لها، فإن القراءة الواقعية المنطقية تشير إلى أن مستقبل أفغانستان الطالبانية يتراوح بين الآتي: (قد يكون السيناريو المتشكل مزيجاً من سيناريوهين أو أكثر، فالسيناريوهات متداخلة)
1- عجز حكومة تصريف الأعمال عن تأدية مهامها تجاه الشعب، لأسباب تم إيجازها في بند "نقاط الضعف"، واندلاع احتجاجات سلمية خدمية، وهو ما يضع الحركة أمام مسارين:
أ- الاحتواء السياسي لهذه الاحتجاجات والتنازل للمكونات الديمغرافية ومنحها استقلالية إدارية فدرالية مع الحفاظ على أفغانستان موحدة بسلطة عسكرية، ونقدية، وخارجية، واحدة.
ب- التصادم والدخول في حرب أهلية، وتحول أفغانستان إلى المثال البارز دولياً لـ"الدولة الفاشلة"، وهذه الحرب ستستمر باستمرار الدعم الخارجي الذي يلقاه الأطراف المتصارعون أو إلى أن يتم التوصل إلى تسوية، وهذه التسوية قد تكون عبر الفدرلة أو عبر "البلقنة" التي تتشظى فيها الدولة الواحدة إلى دولتين أو أكثر، حيث تتغير الحدود السياسية لهذه الدولة.
2- ارتباطاً بالسيناريو الأول، يشكل انهيار الأوضاع الأمنية فرصة للإرهاب الدولي ليلتقط أنفاسه وليوجّه قدراته نحو أهدافه القديمة وربما الجديدة كالصين أو الهند. فالأصول الإرهابية لا تزال في مواقعها في أفغانستان من حيث الملاذات الآمنة والبيئة الحاضنة والتضاريس الوعرة والقدرات الأمنية المحدودة للسلطات الأفغانية.
3- هذه العودة للإرهاب في أفغانستان قد تدفع نحو توحيد الجهود لتشكيل تحالف دولي للإطاحة بالحركة من الحكم، وهذا السيناريو مستبعد نظراً لتسخير واشنطن قدراتها للتعامل مع أخطار تنبع من الدول -الصين وروسيا في الدرجة الأولى- وليس لمكافحة الإرهاب.
ولكن إن تفشى الإرهاب من أفغانستان، فعندها لا مفر من شكل من أشكال الانخراط الأمريكي والغربي في مكافحة الإرهاب، وقد يتم ذلك عبر إعادة احياء "تحالف الشمال" المحلي المكوّن من الأوزبك والطاجيك والهزارة والذي أدى دور بارز على الأرض لمواجهة طالبان عام 2001.
4- نجاح النسخة الحالية من طالبان والمضي قدماً في تثبيت وجودها "الصلب" والمراوحة في إدارة البلاد بين اعتدال الجناح السياسي وتطرف الجناح الأمني، وهذا النجاح إن تم سيكون معززاً بتحسن الواقع الاقتصادي والخدمي وبمساندة الصين، وباكستان وقطر وتركيا.
5- عودة طالبان إلى منطقها السياسي القديم والكف عن الخطابات التصالحية المنفتحة وسيطرة الجناح المتطرف على مقاليد السلطة بالكامل، وهذه السيطرة قد تتم بصورة توافقية ضمن أطر الحركة أو بصورة قسرية بعد اشتباكات واسعة.
التداعيات على الإسلام السياسي
تتأثر كثيراً علاقة أفغانستان الطالبانية مع المشهد الدولي للإسلام السياسي بقدرة الحركة على الاستدامة وبطبيعة الحركة ونهجها، فإن كان التيار البراغماتي المحلي المنفتح في سياسته الخارجية هو الفيصل فإن تأثير ذلك محدود، أما إذا تصدر التيار "الحقاني" فإنه سيميل إلى نسج علاقاته وفق مصالح وتوجهات "إخوانه" في مختلف الدول.
ولأنه من المستبعد استمرارية طالبان بسيطرة التيار المتشدد، يتوقع ألا تنعكس هذه الاستمرارية على مزيد من الزخم للإسلام السياسي، فالتجربة الشرق أوسطية والدولية أثبتت أن المتاعب تأتي تباعاً على جماعات الإسلام السياسي حالما يبالغ في أدلجة علاقاته الخارجية ويجري تفاهمات أو اتصالات مع نظرائه في مختلف الدول متجاوزاً الأطر الرسمية المتعارف عليها، ذلك أن هذه الأدلجة تقود إلى تشكيل محور مضاد له من قبل دول يهدد الإسلام السياسي استقرارها ومصالحها.
فبعد تجربة الاخوان المسلمين في مصر، ستفكر طالبان ملياً قبل أن تتخندق في هذا الطرف أو ذاك، فالإشكال الأمني للإسلام السياسي في اعتبارات معظم الدول ينبع من توجيهه كوسيلة بروباغندية عابرة للحدود تهدد دول لا تتفق مع أي نهج يندرج تحت عنوان الإسلام السياسي، وبالتالي قد تبتعد أفغانستان عن الدخول في دوامة إقليمية من الاستقطاب الأيديولوجي على المدى القصير على الأقل، مما يعني أن تواصل طالبان مع نظرائها سيكون في حدوده الدنيا.
كما أن العواصم الداعمة للإسلام السياسي العابر للحدود سئمت من تحمل الكلف السياسية لهذا الدعم، وشرعت في استدارة لمواقفها ومراجعة تمليها الحسابات الإقليمية والمحلية، فمعظم الدول – بما فيها أفغانستان – منهمكة في شؤونها المحلية ومعالجة تداعيات جائحة كورونا.
أما إذا انهارت أفغانستان الطالبانية فإن ذلك يعد ضربة للإسلام السياسي البرامجي ذو الخطاب المعتدل، إلا أن النسخة المتطرفة الإرهابية قد تنتعش بتحول أفغانستان إلى بؤرة دولية للإرهاب بعد خسارة معاقل مهمة في سوريا والعراق وأفريقيا.
ستراتيجيكس
فريق تحليل السياسات