أتريدون الحرية؟ بالحقيقة تكونون أحراراً...
الحقيقة هي هدف الفلسفة، وبرهان الدين، غاية العلم، وهي ضرورة رئيسة يتطلبها ازدهار العالم الذي يقوم ازدهاره غالباً على معرفة الناس بحقيقته. والسعي المتفاني وراء الحقيقة هو ما يميز العالِم الصالح، والباحث والمؤرخ والمفكر والمحلل والإعلامي والمحقق الجيد عما عداه.
الكاتب حسن إسميك
- تاريخ النشر – ٠٣/١٢/٢٠٢١
ما الحقيقة؟!
الحقيقةُ في الميتافيزيقا وفلسفة اللغة هي الميزة أو الخاصة التي تجعل من الجُمل أو التأكيدات أو المعتقدات أو الأفكار أو الافتراضات التي تُقال في الخطاب العادي، متوافقة مع الواقع، وقادرة على توضيح الأمر كما هو عليه. والْحَقِيقَة في العربية –بحسب المعجم الوسيط– هي: «الشَّيْء الثَّابِت يَقيناً؛ و(عِنْد اللغويين) مَا اسْتعْمل فِي مَعْناهُ الْأَصْليّ؛ وَحَقِيقَة الشَّيْء خالصه وكنهه؛ وَحَقِيقَة الْأَمر يَقِين شَأْنه؛ وَحَقِيقَة الرجل مَا يلْزمه حفظه والدفاع عَنهُ..».
الحقيقة هي هدف الفلسفة، وبرهان الدين، غاية العلم، وهي ضرورة رئيسة يتطلبها ازدهار العالم الذي يقوم ازدهاره غالباً على معرفة الناس بحقيقته. والسعي المتفاني وراء الحقيقة هو ما يميز العالِم الصالح، والباحث والمؤرخ والمفكر والمحلل والإعلامي والمحقق الجيد عما عداه، لذلك فهي قرينة الصلاح وركيزة كل إيمان. و"قول الحقيقة" أو ما يعرف بـ "الصدق" هو فضيلة، وهي بحسب اللاهوتي توما الإكويني «جزء لا يتجزأ من الموضوع الأكبر لفضيلة العدالة. العدل هو ما ندين به لبعضنا ولأنفسنا في مجتمع مزدهر». وعلى العكس من ذلك فإنك عندما تقول ما هو غير حقيقي قد تتعرض لعقوبات، بعضها اجتماعي وبعضها الآخر قانوني. إذن، للحقيقة أهمية وجاذبية ومكانة مركزية في حياة الناس.. لكن إلى أي مدى نحن صادقون، وهل يغلب قول الحق في مجتمعاتنا على صعدها المختلفة، على التفوه بالباطل؟
للأسف الجواب هو "لا"، إذ يسيطر الكذب الخداع والتضليل على جوانب حياتنا كلها من أبسطها حتى أعقدها، من تلك الكذبة "الصغيرة" حين نلقي باللوم مثلاً على ازدحام المرور لأننا تأخرنا على موعد ما، إلى كبريات الأكاذيب التي لا ينفك معظم السياسيين في العالم، وفي الدول العربية على وجه التحديد، يحاولون تمريرها على شعوبهم، والتي غالباً ما تفضي إلى نزاعات مكلفة، وإلى حروب بلا طائل تكون فتّاكة بالبشر هدّامة للحجر. وإذا كان للموت في الحرب مسوغاته وفضائله أحياناً، فلا مسوغات ولا فضائل للموت في حروب يمكن تفاديها!
ولقد تسرب الكذب والخداع والتضليل إلى كل مفاصل الحياة، ولم تسلم منه العلاقات الاجتماعية ولا حتى تلك العاطفية، في الماضي كان البعض يرى في عمليات التجميل مثلاً نوعاً من الخداع وتغيير حقيقة شكل الإنسان، أما اليوم ومع ثورة تكنولوجيا وسائل التواصل الاجتماعي، حصل كثيرون على المنصة والأدوات ليخترعوا عبر التجميل شخصيات جديدة، قد لا يحمل أصحابها من حقيقتهم شيئاً، لا من ناحية الشكل والصورة ولا من ناحية طريقة التفكير ومنظومة التفضيلات والاهتمامات والرؤى والمعتقدات. وبدل أن تكون الحقيقة هي الركيزة المتينة الذي تُؤسس عليه العلاقات الصلبة والمستدامة، تم الاستعاضة عنها بالكذب والنفاق، فباتت معظم العلاقات –حتى تلك التي تنتهي بالزواج– سطحية وهشة وآيلة للسقوط في أي لحظة، الأمر الذي يهدد تماسك مجتمعات بأكملها.
وإذا كان إخفاء الحقيقة بهذه الخطورة على الصعيد الفردي، فلكم أن تتخيلوا مستوى التهديد الذي يشكله طمس الحقائق على مستوى الدول والكيانات السياسية الكبرى. خاصة وأنه حتى في أعتى الديمقراطيات والليبراليات الغربية لا يوجد وسيلة لضبط الكذب عند السياسيين، ولا لمحاسبتهم على ما يرتكبونه من تضليل، ولم يعد غريباً أو مستهجناً أن يُنتخب سياسيون مرة أخرى بعدما ثبت كذبهم لأنهم قدموا "حوافز كافية"، على الرغم من أنه يجب التشدد في محاسبة القادة والسياسيين على الكذب أكثر من التجار والكتّاب والناس العاديين، لأنه كثيراً ما تكون أرواح البشر هي الثمن الذي يُدفع بخساً جراء الكذب في السياسة.
وفي عالمنا العالم العربي، ما زلنا نعيش أوضح مثال على هذا النوع من التضليل في مظلة صراعنا الممتد مع الإسرائيليين منذ ما يربو عن 70 عاماً، إذ يدرك أغلب القادة العرب، مثلما أدرك أسلافهم في الماضي، أن القضاء الكامل على إسرائيل وتحرير الأرض من البحر إلى النهر ضرب من ضروب المستحيل، وأسباب ذلك كثيرة، ليس أقلها الاستعداد المادي والتقني الذي ينبغي توفره، وصولاً إلى تشابك العلاقات الدولية واحتكامها إلى قوانين وقرارات دولية لا يمكن تجاوزها، ومع ذلك ما زال بعض السياسيين يدفعون بشعوبهم، وبالفلسطينيين بالذات، نحو الحرب التي لا تتوقف عن حصد الأرواح وتدمير الممتلكات وعرقلة النمو، حتى أصبحت أغلب مجتمعاتنا العربية في آخر ركب الحضارة.
لا تقف النتائج الكارثية بسبب "الكذب" في قضية فلسطين والصراع مع إسرائيل عند الحروب وآثارها المدمرة فحسب، بل لقد انسحبت على ما هو أكثر من ذلك وأشد تعقيداً، فالكذب الذي هو عدم المطابقة مع الواقع صنع "واقعاً" متخيلاً جعل دولاً عربية تبني عليه وتستند إلى أوهامه في سياساتها واستراتيجياتها، ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل على كافة الصعد اقتصادياً واجتماعياً وحتى ثقافياً، أما محصلة ذلك فكانت ما تشهده بعض هذه الدول اليوم: ضعف في كل شيء، وفشل في التنمية والتخطيط والازدهار، ونقص في الموارد والقوى، مقابل تقدم ما وسموه بـ "العدو" وتطوره وتفوقه، وهم الذين كانوا يشيعون أن كل سياساتهم تصبّ في سبيل محاربة هذا العدو والانتصار عليه.
ورغم أن السياسة لم تخلُ يوماً من الكذب، إلا أن الكذب في خدمتها، ولأجل تحقيق الغايات النافعة لها، لا يتساوى أبداً مع الكذب في الغايات نفسها، وهذا ما جعل الشعب الفلسطيني وشعوباً أخرى معه ترهن حياتها لأجل الغاية "الكبرى"، أي النضال والتحرير والانتصار في ظل من كذبوا عليهم وأوهموهم أنهم يسعون للغاية ذاتها، بينما لم يسعوا حقيقة إلا لحفظ مصالحهم واستمرار سلطتهم وتنامي ثرواتهم.
يقول جون ميرشايمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو، وصاحب كتاب "لماذا يكذب القادة؟": «الحقيقة هي أن الكذب الاستراتيجي هو أداة مفيدة في فن الحكم». أعلم تمام العلم أن هذه المقولة صحيحة، فالحقيقة المطلقة أمر أقرب إلى الخيال في عالم السياسة الذي نعيشه اليوم، وإذا كان لا بد من بعض الكذب لخدمة مصالح الشعب، فليكن ذلك – دون أن أقول إن هذا أمر صحيح أو مستحب. لكن المشكلة الكبرى في مثالنا السابق تكمن في أن الكذب لا يخدم في تحقيق مصالح الشعب على الإطلاق، بل لقد أدى أحياناً لضمان مصالح قوى خارجية تعمل على دعم هؤلاء وتغذية ما يصيغونه من أكاذيب وخداع، وما زالت الكلفة الباهظة تقع على حساب بناء السلام في أرضنا التي لم تعرف السلام منذ عشرات السنين، ولم تتذوق أياً من ثماره المتنوعة من استقرار ونمو ورخاء ورفاه وأمن وأمان.
ما يثير الاستغراب الأكبر في هذه الحالة، أن كثيراً من الناس يدركون مقدار الكذب الذي يتعرضون له من قبل قادتهم، لكنهم يرفضون الإصغاء إلى الحقيقة. وعلاقة هؤلاء بالحقيقة غريبة بحق، فهم يطلبونها لكنهم يكرهون الحصول عليها، ويُظهرون انشغالهم بالبحث عنها، وقد يصدف أن يلتقوا بها، لكنهم يصرون على العيش في الكذبة، فيقنعون أنفسهم بأمور هي أبعد ما تكون عن الواقع، ويحاربون كل من يحاول كشف زيف ما يصدقون، ويخلقون أوهاماً تكاد تتجاوز في تأثيرها السلبي تأثير الكذب الممنهج الذي يمارس عليهم.
يقول المثل الدارج إنَّ "الحقيقة مرة"، وعليه يبرر كثيرون الكذب بأن هدفه هو "حماية مشاعر الآخرين"، وهذان الأمران بحد ذاتهما جزء من الكذبة التي نقنع بها ذواتنا لنسهل على أنفسنا عدم قول الحقيقة، مع أن الكذب يكبد قائله جهداً عقلياً ونفسياً أكبر بكثير من قول الحقيقة. أشار الرئيس الأميركي أبراهام لينكولن ذات مرة إلى ذلك حين قال: «لا يوجد رجل لديه ذاكرة جيدة بما يكفي ليكون كاذباً ناجحاً». أضف إلى ذلك أن الكاذب غالباً ما يكون أول ضحايا أكاذيبه، لأنه مضطر لتمثيل هذه الأكاذيب أولاً كي يتمكن من إقناع الآخرين بها. ولا شك أن العيش في عالم من الأكاذيب المبتكرة ذاتياً وتجنب الحقيقة أمر منهك يتطلب طاقة كبيرة وينتج قدراً أكبر من التوتر. ورغم كل ذلك ما زال كثيرون يفضلون التعايش مع العواقب طويلة المدى للكذب على أنفسهم وعلى الآخرين كي لا يواجهوا الألم المؤقت للحقيقة.
رغم كل هذا التراجع الذي تشهده الحقيقة، وقولها والبحث عنها، ما زلت مؤمناً بأننا مفطورون على غريزة طبيعية للبحث عن الإجابات وفهم الأشياء تحملنا مسؤولية أن نكون صادقين وأن نكشف الكذب عندما نستطيع إلى ذلك سبيلاً. وإذا أردنا أن نكون أوفياء للأمانة التي أودعها الله فينا أولاً، وللواجب تجاه أخوتنا في الإنسانية وشركائنا في الأوطان والمجتمعات فعلينا أن نقول الحقيقة دائماً، وأن يكون كل منا صادقاً تماماً ومباشراً وشفافاً في الأقوال والأفعال، فلا يتعمد الكذب مطلقاً ولا إخفاء الحقيقة ولا حتى إغفالها، أو صرف الناس عنها، مهما كانت الأثمان والكلف.
"بالحقيقة تكونون أحراراً" كما جاء في إنجيل يوحنا (8: 36). ولن نستطيع بالكذب أن نستعيد حقاً ولا أن نبني أمة، وإذا ما بقينا مبتعدين عن الحقيقة ورفضنا سماعها، وقبلنا ما يفرض علينا من أكاذيب تعطينا انطباعاً خاطئاً بأن كل شيء "على ما يرام"، وتدفعنا نحو التضحية بكل ما نملك مقابل سراب، فسنظل أسرى الوهم نعيش في وعي زائف مقيدين، ولن نعرف طريق الحرية والسلام، وستظل الثقة مفقودة بين الناس أولاً، وبينهم وبين قادتهم أولاً وأخيراً.
بدون الثقة تفقد المجتمعات ركيزتها الأساسية، وبالكذب في السياسة يصير الانهيار مصيرها المحتوم.
حسن إسميك
رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS