طالبان الحاكمة: تحديات داخلية وأهداف جيوستراتيجية

تحتل الأنباء الواردة من أفغانستان صدارة اهتمام العواصم الدولية، لما أحدثته طالبان من سيطرة على الجغرافية الأفغانية وتشكيل نقطة تحول في هذا البلد الذي يتداخل مع التوترات الدولية، سواء في انهيار الاتحاد السوفييتي أو في الحرب على الإرهاب. وهذه الورقة توجز أهم التحديات "المحلية" التي ستواجه الحركة في إقامة حكم سياسي مستدام ومستقر، كما تستعرض الورقة طالبان في المنظور الجيوستراتيجي ذي التنافسية الحادة بين واشنطن من جهة وبكين وموسكو من جهة أخرى. واختتمت الورقة في تبيان أهمية حصول الحكومة التي تقول طالبان أنها تعمل على تشكيلها مع مختلف الأطراف على اعتراف دولي، والذي سيظل رهناً بمدى قدرة الحركة على اثبات حسن نيتها في قطع علاقتها مع ماضيها وفي بناء واقع جديد بعيداً عن قوى الإرهاب والتطرف.

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢٤‏/٠٨‏/٢٠٢١

لم يكن مفاجئاً تهاوي الولايات الأفغانية أمام تمدد حركة طالبان، فمع بدء التنفيذ الفعلي لسحب القوات الأمريكية من أفغانستان برزت بوضوح عوامل الضعف في بنية الدولة الأفغانية التي لم تصمد أمام مقاتلين بأسلحة خفيفة لكن بإيمان عميق وبثقة مرتفعة مستمدة من صمود الحركة رغم 20 سنة من عمليات "الحرب على الإرهاب" وقبول واشنطن لتوقيع اتفاق مع الحركة نصّ على الانسحاب الكامل للقوات الأمريكية من البلاد، مقابل تعهد طالبان بعدم السماح للجماعات الإرهابية -كداعش والقاعدة – بالعمل والإعداد لأي عمليات انطلاقاً من الأراضي الأفغانية.

وأمام الحقائق الجديدة التي تتشكل وتُفرض على الميدان، ستكون حركة طالبان في بؤرة الاهتمام والاتهام تجاه ما يحدث في أفغانستان، فبغض النظر حول ما إذا كان الأمر استيلاءً على السلطة أو تسليماً لها أو تشاركاً في عملية سياسية تستوعب جميع التناقضات القبلية والعرقية والطائفية؛ تدرك الحركة جيداً أنه لا يمكن لها الاستمرار في منطقها السياسي السابق.

وبالعودة إلى سبتمبر 1996 عندما استولت طالبان على السلطة بعد أشهر طويلة من الاشتباكات المحلية، يبدو المشهد الحالي مغايراً عن ذلك العام، حيث قتلت الحركة الرئيس السابق ذي الأيديولوجيا الشيوعية نجيب الله، وأغلقت البعثات الدبلوماسية، وأقيمت ساحات ميدانية لتنفيذ الأحكام الشرعية -الحدود- مستمدة من فهم متشدد ضيق لنصوص دينية كانت استثنائية الدلالة ولا تحمل صفة العموم، ناهيك عن تدمير الآثار البوذية على امتداد سنوات سيطرتها الأولى التي امتدت حتى سقوط كابل بيد قوات التحالف الدولي في نوفمبر 2001.

ولعل أبرز المحطات التي مرت بها تلك المرحلة هي محاولات الحركة فرض ثقافتها على المجتمع الأفغاني البالغ تعداده في ذلك الوقت 18.8 مليون نسمة، وهي الثقافة التي مزجت بين عادات وتقاليد قبيلة البشتون والمذهب الحنفي الأصولي، مما أفرز سلطة سياسية دينية عجرت عن تحقيق الاحتياجات المعيشية ولذلك لجأت إلى "الدين" كوسيلة للتغطية عن عجزها. 

أما حالياً، فيبدو أن الحركة قد تغيرت في طريقة تعاطيها مع الداخل والخارج، فسرعان ما بادر الصف الأول في الحركة بعد دخول كابل إلى بث مجموعة رسائل الطمأنة، والعفو عن كل المسؤولين السابقين، والتعهد بأمن البعثات والمقرات الدبلوماسية، والتشديد على احترام أمن الدول المجاورة والعالم بأسره، وحظر اقتحام منزل أي شخص لغايات التفتيش والمصادرة، والتأكيد على أن الحريات ستكون مصانة وفق الشريعة الإسلامية مع سماحها للمرأة بالعمل والتعليم والانخراط في الأنشطة المجتمعية والسياسية ضمن ضوابط محددة.

1-(1).jpg-افغانستان-طالبان-صورة-داخلية-١.jpg

أهم التغيرات الآخذة في التشكل الآن تتمثل في تفاعل الحركة الإيجابي مع بعض التيارات الرسمية وحديث الحركة عن رغبتها في بناء حكومة عادلة غير فاسدة تمثل جميع المكونات، وفي هذا الصدد عُقد اجتماع في 18 أغسطس 2021 ضم القيادي في الحركة، أنس حقاني، والرئيس الأفغاني السابق، حامد كرزاي، ورئيس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية عبد الله عبدالله.

ويواجه انفتاح طالبان بتخوف داخلي وتشكيك خارجي، فلا تزال الصورة النمطية "الماضية" عن حكمها وسلوكها تطفو على السطح عند التطرق للشأن الأفغاني، فمن المبكر الجزم بأن طالبان "تغيرت" أو أن ثمة نسخة معدلة منها، ذلك أن مثل هكذا تغير يتطلب إعلان الحركة عن إجرائها لمراجعة فكرية تعيد صياغة موقفها بالنسبة للمفاهيم الأساسية، مثل: الدولة والمرأة والحريات والحاكمية لله (السلطان يستمد شرعيته من الله، فلا يجوز الخروج عليه) والحوكمة (معايير الإدارة العامة كالمساءلة وسيادة القانون).

فما جرى للآن من تغييرات جذرية تكاد تقتصر في الخطاب الموجه للآخر، ومؤخراً اضطرت الجماعات المسلحة إلى "تحديث" مظهرها وخطابها لغايات سياسية، فمثلاً عملت "هيئة تحرير الشام" الناشطة في سوريا التي أعادت إنتاج كيانها من فكر تنظيم "القاعدة" و"جبهة النصرة" بتقديم نفسها على أنها حركة مقاومة سياسية وليست إرهابية، وتحاول رسم صورة جديدة أكثر مقبولية، وهذا ما روج له زعيمها، أبو محمد الجولاني، مع شبكة "Front Line" في أبريل 2021.

ويبقى الحكم على طبيعة طالبان السياسية معلقاً إلى حين نضج القواعد القانونية الناظمة (كالدستور والتشريعات القانونية)، وما إذا كانت هذه القواعد ستطبّق بصورة تمييزية إقصائية بناءً على الطائفة أو العرق أو القبيلة أم لا، فيمكن للتطبيق الانتقائي المنحاز أن يقوّض قواعد قانونية عادلة وموضوعية.

وسيكون تصرف طالبان في المرحلة المقبلة محكوماً بغاية أي نظام سياسي، وهي البقاء والاستمرارية والتكيف، وهذه "الغاية" تختلف عن غاية عهدها السابق الذي كانت فيه جماعة مسلحة تقوم بعمليات كر وفر واشتباكات متقطعة، فهي الآن في صدارة الحالة الأفغانية والمعني الرئيس بمواجهة تحديات وجودية يمكن إيجازها فيما يلي:

1. بناء الدولة وإدارة الاحتياجات المعيشية السكانية

تزامناً مع التوقيع على اتفاق السلام بين واشنطن وطالبان، أعد ستراتيجيكس ورقة بحثية قيّمت مجمل الأوضاع العامة في أفغانستان، واستشرفت الورقة عدة سيناريوهات يمكن أن تطرأ على المشهد الأفغاني، كان أولها نجاح تطبيق الاتفاق بين واشنطن والحركة، وتمكّن الأخيرة من التمدد بهدوء نحو المفاصل البيروقراطية للدولة.

وترجيح هذا السيناريو تم بناءً على قراءة موضوعية للواقع الأفغاني، فإذا ما انسحب الجيش الأمريكي كما هو محدد في الاتفاق، فإن الخلل البنيوي في الهيكل السياسي والإداري الأفغاني سيظهر، وستتحرك طالبان لملئ هذا الفراغ.

ولعل ملف "أوراق أفغانستان" أدق ما يشخص حالة الخلل البنيوي، وقد نشرت صحيفة "The Washington Post" هذا الملف في ديسمبر 2019 والمكون من قرابة 2000 صفحة توزعت على 6 أقسام رئيسية؛ 4 منها تتعلق بالداخل الأفغاني وتفاعلاته.

وقد أظهر القسم الثالث من الوثائق والمعنون بـ "Built to Fail" كيفية إخفاق استراتيجية الولايات المتحدة في إعمار أفغانستان رغم تخصيص 133 مليار دولار لدعم التنمية والأجهزة الأمنية في أفغانستان. ووفقاً للصحيفة، فإنه وبدلاً من جلب الاستقرار والازدهار، فقد قامت الولايات المتحدة – بصورة غير مقصودة – ببناء حكومة عاجزة عن القيام بمهامها، بل ومعتمدة في بقائها على القوات الأمريكية.

لذلك يمكن القول أن الولايات المتحدة وحلفاؤها لم يفشلوا عسكريا وإنما عجزوا عن مواءمة تقدمهم العسكري بمسار سياسي "محلي" مناسب. فبحسب مبادئ الاستراتيجية العسكرية الشائعة، يعد استخدام القوة العسكرية قاصراً ما لم يكن مدفوعاً بهدف سياسي واضح وعملي ومحدد بحيث يمكن تطبيقه.

ولم يكن وضع أفغانستان عسكرياً أفضل منه سياسياً، فقد تلاشى الجيش البالغ تعداده 300 ألف جندي على وقع اندفاع مقاتلي الحركة، ولم يفلح التدريب والتسليح الأمريكي النوعي على بث الروح القتالية في صفوف الجيش، رغم أن ما انفقته الميزانية الدفاعية الأمريكية على الجيش الأفغاني وصل إلى أكثر من 83 مليار دولار.

اقتصادياً لا يبدو الوضع بحالٍ أفضل، فليس هناك معايير مؤسسية فعالة في الهيكل الإداري الأفغاني، ويعد الفساد ممارسة طبيعية وليس استثناءً، ولذلك حلت أفغانستان عام 2020 في المرتبة 165 على مؤشر مدركات الفساد العالمي الذي يغطي 179 دولة.

ويعتمد الاقتصاد الأفغاني على المساعدات الخارجية بنسبة 75٪، ما يبقيه رهناً برضى واشنطن والغرب عموماً عن سلوك الحكومة الأفغانية، وبالفعل أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية عن تجميد احتياطيات الحكومة الأفغانية المودعة في البنوك الأمريكية والتي تقدر وفقاً لصندوق النقد الدولي بـ9.4 مليار دولار، أي ما يشكل قرابة نصف الناتج المحلي لعام 2019 والبالغ 19.2 مليار دولار.

وعليه، ستواجه الحكومة القادمة -سواء كانت طالبانية بالكامل أم ذات مظهر تعددي- تحدي بارز يتمثل في إقناع العواصم المؤثرة والمؤسسات المالية العالمية بضرورة الموافقة على إدماج أفغانستان الجديدة في النظام النقدي الدولي وعدم فصلها عنه، وبالطبع هذا الأمر ليس سياسياً أمنياً فقط وإنما يخضع أيضاً لمعايير تقنية يتعين على الحكومة الأفغانية تلبيتها.

أحد هذه المعايير يتصل بنشاط الأسواق السوداء خارج الإطار الرسمي، حيث يشيع في أفغانستان التهريب بحكم كونها دولة حبيسة دون منفذ مائي ترتبط مع ستة دول بتضاريس جبلية دون وجود قوات حرس حدود فاعلة. وقد تأقلمت الأسواق الأفغانية مع هذا الواقع، إذ تتولى شبكات التهريب مهمة "الاستيراد" دون أي ضوابط رسمية. وبالطبع هذه الشبكات ستقاوم أي تغيير يستهدف نشاطها، ويُتوقع أن تشتبك طالبان مع هذه العصابات المسلحة إذا ما أرادت فرض سيادة القانون وبناء اقتصاد رسمي.

2.jpg-.jpgطالبان-افغانستان.jpg

قد يكون ما تم استعراضه في هذا البند واضحاً يمكن قياسه، وبالتالي يسهل تشخيصه ومعالجته. أما ما يصعب تشخيصه ومعالجته هو ما يرتبط بالوعي المتكيف مع حالة الفلتان الشامل والفوضى في اللادولة، فما ينتظر أفغانستان ليس إعادة إعمار وإنما بناء جذري للدولة تكون نتائجه مجتمع أكثر تقبلاً للآخر.

2. الفصام الأيديولوجي

لا يزال الداخل والخارج الأفغاني يختبر قدرة الحركة في الوفاء بما أعلنته من التزامات وتعهدات في تصريحات قادتها السياسيين، والتي تعد نقطة تحول في خطاب الحركة يأمل مراقبو تحركاتها في أن تترجم إلى واقع جديد لأفغانستان.

وهذه التصريحات القريبة من الطرح المدني التعددي المحافظ على الحقوق والحريات، تتناقض إلى حدٍ بعيد مع مسار الحركة التاريخي ومع منطق أنصار الحركة في الأرياف الجبلية. ولذلك إن ترسخ هذا التحول في الخطاب وانتقل إلى مستوى الممارسات العملية، يُتوقع أن تفقد الحركة بريقها وقدرتها على الإقناع، مما يُدخلها في حالة من "الفصام الأيديولوجي" كنتيجة للتناقض ما بين طالبان القديمة والإصدار الجديد منها.

وهذا "الفصام الأيديولجي" سيكون مترافقاً مع حالة من ازدياد المطالبات الشعبية الخدمية الاقتصادية الموجهة للحركة، ولن يكون بمقدور الحركة التلويح بشرعيتها الدينية في وجه هذه المطالبات بعد أن تخلى خطابها عن جزء من أصوليته.

وهو ما قد يقود إلى تمرد وصراع على تمثيل الشرعية الأصولية في البلاد على أكثر من مستوى؛ سواء في علاقة الحركة مع تنظيمات أخرى كداعش والقاعدة، أو داخل الحركة نفسها التي لا تزال قيادتها السياسية تصر على على أنها تبذل جهداً لضبط تصرفات أفرادها وأنها تحقق في أي "شكوى" تقدم لها ضد هذه التصرفات. وعملياً، يصعب تحديد قيادة عليا موحدة قادرة على فرض رؤيتها ومنهجها على كل نشاطات الحركة.

أحد أهم التيارات داخل الحركة يتمثل في شبكة حقاني التي تردد في وسائل إعلام أن 6 آلاف من أفرادها يمسكون بزمام الأمور في العاصمة الأفغانية، وهذه الشبكة صنفتها إدارة أوباما عام 2012 منظمة إرهابية، حيث يتشابه منطق عملياتها مع القاعدة وداعش إذ تضم خلايا انتحارية، وتتبنى استراتيجية قريبة من استراتيجية "الجهاد العالمي"، ولا تمانع استهداف المنشآت المدنية التي يقيم فيها أفراد من طوائف غير سنية.

آخر هذه الهجمات ما تم عندما هاجم إرهابيون مجمعاً للسيخ في كابل في مارس 2020 أسفر عن مقتل 25 شخصاً، وأعلنت السلطات الأفغانية أنها اعتقلت 8 أعضاء من داعش وشبكة حقاني على خلفية هذه الهجمات.

وقد ظهرت أبرز التصدعات داخل الحركة بعد أن تولى "آخوند زاده" زعامتها خلفاً للملا "أختر منصور" الذي أُعلن عن مقتله في مايو 2015 بغارةٍ أمريكية؛ حيث أبدى الزعيم الجديد في أول تصريحاته في يونيو من نفس العام رغبته في التوصل إلى اتفاق مع الحكومة الأفغانية "إذا تخلت عن حلفائها الأجانب"، وقد أدى هذا التصريح إلى إعلان مجموعة عسكرية منشقة بقيادة "مولوي نقيب الله هونر" – لم يتسن التوصل إلى معلومات موثوقة حول هذه الشخصية – الجهادَ ضد طالبان، فقد استغلت هذه المجموعة المشهد "الجهادي" الفوضوي في البلاد بعد أن أوجدت داعش لها موطئ قدم في أفغانستان، وسرعان ما تمكن "زاده" من تحييد خطر تنظيم "داعش" الإرهابي ومجموعة "هونر"، لتنفرد طالبان في الساحة الأفغانية بمبايعة رأس القاعدة، أيمن الظواهري، لزاده.

وبالعودة إلى المستوى الداخلي للحركة، فإن توجهات شبكة حقاني تتلاقى نسبياً مع رئاسة اللجنة العسكرية لطالبان التي يقودها الملا يعقوب نجل أحد الزعامات الروحية للحركة، الملا عمر. ووفقاً لبعض التقارير الإعلامية فإن الملا يعقوب يقيم غالباً في قندهار قرب الحدود الأفغانية الباكستانية ذات الأهمية البالغة، نظراً للعلاقات التي تربط طالبان مع إسلام أباد، ولكون هذه المنطقة تعد خزان بشري للحركة التي تعد قبيلة البشتون عمادها.

3. التركيبة الديمغرافية "المسلحة"

لا يمكن اختزال حركة طالبان في كونها جماعة دينية تتخذ من المذهب الحنفي السني مرجعاً، وإنما هي أيضاً جماعة عرقية ترتكز على المكون الاجتماعي الأكبر في البلاد الذي يشكل 42٪ من عدد سكان البلاد المقدّر بقرابة 40 مليون نسمة. وهذا المكون هو قبائل البشتون التي تنتشر في عدة دول من آسيا الوسطى.

ثاني المكونات الديمغرافية هي القومية الطاجكية التي تشكل قرابة 27٪، ثم الأوزبك والهزارة والتي ينطق أفرادها بالفارسية وينتمون إلى الطائفية الشيعية. وتتمايز هذه الجماعات عن بعضها إما عرقياً أو قومياً أو حتى طائفياً، ولذلك تعد البلاد مهيئة لحالة من الصراع القومي الطائفي إذا ما تعذر التوصل إلى صيغة سياسية توافقية أو غير إقصائية في الحد الأدنى.

ومما يزيد من احتمالات الصدامات العرقية هو أن الأقليات في معظمها تتمركز على حدود أفغانستان وترتبط بصلات قرابة مع امتداداتها في الدول المحيطة، مما يوفر "حافزاً" لدى بعض القوى الخارجية لتوظيف الحالة الديمغرافية الأفغانية لتحقيق مآربها الخاصة في أفغانستان أو حتى في آسيا الوسطى.

وتظهر خارطة السيطرة أن طالبان تمكنت من فرض سيطرتها على كل الولايات باستثناء ولاية واحدة هي ولاية "بنجشير" التي تعني الأسود الخمسة، فقد تحولت الولاية إلى قاعدة مفتوحة تضم القوات المنسحبة من باقي الولايات لا سيما كابل.

وهذه الولاية يقطن فيها الطاجيك بنسبة 99٪ تقريباً، وأُقيمت فيها 20 قاعدة عسكرية نظراً لموقعها الحيوي المطل على العاصمة، ولهذه الولاية خصوصية تاريخية في العلاقة مع طالبان، ففي تمدد الحركة الأول عام 1996 منعت "الأسود الخمسة" سقوط كامل البلاد تحت سيطرة طالبان، ومن ثم تحولت الولاية إلى مركز لـ"تحالف الشمال" الذي ضم قوى محلية مناوئة للقبضة الدينية التي فرضتها الحركة آنذاك، وقد أدى هذا التحالف دور محوري في إسناد التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي أطاح بحكم طالبان بعد هجمات 11 سبتمبر.

والآن يقيم في الولاية عدة شخصيات منهم نائب الرئيس الأفغاني، أمر الله صالح، الذي أعلن بموجب الدستور أنه الرئيس المؤقت بعد مغادرة الرئيس أشرف غني وشغور موقع الرئيس، كما يقيم في الولاية أحمد مسعود، نجل القائد الأفغاني أحمد شاه مسعود الذي قُتل قبل أحداث 11 سبتمبر بيومين. ويُتوقع أن القائم بأعمال وزير الدفاع في الحكومة الأفغانية المنهارة، بسم الله محمدي، يمارس نشاطه من هذه الولاية أو من المناطق الشمالية، وقد أعلن محمدي أن "قوات المقاومة الشعبية" استعادت السيطرة على 3 مناطق في ولاية بغلان الشمالية بعد اشتباكات مع مقاتلي الحركة.

إذاً، ستواجه طالبان مقاومة عرقية طائفية قبلية إلا إذا نجحت في تحقيق حد أدنى من التوافق، وأشعرت المجتمع الأفغاني بأنها جادة في تلبية احتياجاته المعيشية، والأهم إدارة علاقاتها الخارجية بما يحول دون انزلاق الدولة في دوامة التنافس والصراع الدائر بين القوى الإقليمية والدولية.

3.jpg-طالبلان-افغانستان.jpg

أفغانستان في المنظور الاستراتيجي الدولي

إن أحداث كابل الأخيرة قريبة جداً من الجدال حول الهيمنة العالمية بين أمريكا كقوة مسيطرة من جهة وبين الصين وروسيا كقوى صاعدة من جهة أخرى، فقد اعتبر محللون لا يخفون انحيازهم إلى الصين وروسيا أن ما يجري علامة إضافية على تدهور المكانة العالمية لواشنطن، معتبرين أن انسحابها من كابل علامة ضعف تؤذن بانهيار هيمنتها.

وهذا "التنبؤ" تم طرحه بعد الانسحاب الأمريكي من فيتنام عام 1973 الذي تم في خضم الحرب الباردة، وفي الواقع الذي انهار هو الاتحاد السوفيتي في حين تحولت أمريكا في العقد الأخير من القرن الماضي إلى قوة عظمى في نظام دولي أحادي القطبية دون منازع.

أما حالياً فمن الصعب الاتفاق "نظرياً وعملياً" على شكل النظام الدولي، في ظل تنامي الحضور الصيني على الساحة العالمية، فبكين لا تزال بعيدة عن تصنيفها كقوة قطبية، وفي الوقت نفسه تجاوز حضورها الطابع الإقليمي وأصبحت بترسانتها الاقتصادية قادرة على التأثير في القرار العالمي.

بالطبع ثمة ارتدادات لما يدور في السياسة الدولية من تنافس وصراع على أفغانستان، التي بدورها أيضاً ستؤثر على هذه السياسة أقلها في الإطار الإقليمي، فأولاً سيخفت هدف "دمقرطة الأنظمة" في السياسة الخارجية الأمريكية، وهو الهدف الذي احتل أولوية في الحسابات الأمريكية ظناً من واشنطن أنه بالإمكان فرض طابع ليبرالي لا يراعي خصوصية وطبيعة المجتمعات المختلفة. وبالتي ستتراجع قدرة الولايات المتحدة على تصدير نموذجها في ظل صعود النموذج الصيني الذي أثبت جدارته في بناء عدالة اجتماعية وفي مواجهة جائحة كورونا مثلاً.

ثانياً، الاحتمالية المرتفعة لتفشي الإرهاب العابر للحدود انطلاقاً من أفغانستان، فالجغرافيا الأفغانية البالغة مساحتها 650 ألف كيلو متر مربع تشكل بيئة خصبة ليعيد الإرهاب الدولي تنظيم صفوفه فيها من جديد، وهذه الملاذات الآمنة قد توظف من قبل دول تسعى لنشر الفوضى انطلاقاً من أفغانستان ضد الصين التي تربطها 91 كم حدود مشتركة مع أفغانستان، حيث أشارت تقارير أمنية إلى أن وجهة الإرهابين "الإيغور" من إدلب ستكون نحو هذا الجيب الحدودي الوعر أو ما يعرف بممر واخان. 

4.jpg-طالبان-الحاكمة-و.jpg

وتشكل آسيا الوسطى حجر الأساس في المشروع العالمي "الحزام والطريق" الذي تنشئه الصين لنقل السلع والأفراد حول العالم، وإذا ما انهار الوضع الأمني في آسيا الوسطى فإنه لن يكون بمقدورها تحقيق كامل أهدافها من هذا المشروع الذي تتخوف منه المؤسسات البحثية الأمريكية وتدعو إلى عرقلته أو مزاحمته.

بالإضافة إلى الصين، ترتبط أفغانستان بحدود غير مباشرة مع روسيا، حيث تعد دول جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة المحاذية لأفغانستان منطقة نفوذ تقليدي لموسكو، والتي بحكم تجربتها الماضية في "الجهاد الأفغاني" تولي اهتماماً خاصاً بما يدور في كابل.

اللافت في التحركات الدبلوماسية أن بكين وموسكو أطلقتا تصريحات "شبه ودية" نسبياً تجاه طالبان بعد سيطرتها على كابل، لا بل وأعلنتا أن سفارتيهما لا تزال تعملان داعيتين في الوقت عينه إلى ضبط النفس وتحقيق الاستقرار، ولا يزال مبكراً الحكم على طبيعة علاقات طالبان مع بكين وموسكو وما إذا كانت الحركة جادة في منع استهداف هاتين الدولتين انطلاقاً من أراضيها.

ثالثاً، التنافس "الصفري" الذي لا يقبل القسمة على اثنين على المعادن والمواد الخام، وأثبتت الوقائع في الدول غير المستقرة أمنيا أن هذه الثروات عادةً تتحول إلى نقمة بفعل التنافس الدولي وسعي هذا الطرف أو ذاك الى الاستئثار لوحده في هذه الموارد.

وقد نشر موقع "Quartz" في أغسطس 2021 تقريراً حول الثروات المعدنية في أفغانستان التي قدرت هيئة المسح الجيولوجي قيمتها بقرابة 3 ترليون دولار، أبرزها عنصر "الليثوم" الذي أصدرت حوله وزارة الدفاع الأمريكية مذكرة داخلية بعنوان "أفغانستان المملكة العربية السعودية لليثيوم" بعد الاكتشافات الهائلة لهذا المعدن التي تقدر بـ1 ترليون دولار. وهذا المعدن لا يمكن الاستغناء عنه في بطاريات الطاقة المتجددة التي تهيمن عليها الصين بحكم كونها أكبر منتج لليثيوم في العالم، مما يضع أفغانستان في دائرة "صراع الطاقة النظيفة" الآخذ بالتشكل مع التوجه نحو تحييد الطاقة الكربونية.

ثاني هذه المعادن ذو الأهمية الجيوستراتيجية هو "العناصر الأرضية النادرة" التي تقدر احتياطات أفغانستان منها بـ1.4 مليون طن، وقد تردد ذكر هذا المعدن في أوج حرب التعريفات الجمركية بين واشنطن وبكين في عهد ترامب، فنظراً لتحكم الصين في هذا المعدن عالمياً فإنه تحول إلى أداة ضغط حالت دون مزيد من فرض إدارة ترامب للرسوم الجمركية، ذلك أن هذا المعدن لا يمكن الاستغناء عنه في صناعات الدوائر الالكترونية في الهواتف الذكية، ويدخل أيضاً في الصناعات الدفاعية الأمريكية.

وتحوز أفغانستان ثاني أكبر احتياطي من النحاس في العالم (88 مليار دولار)، وبريليوم (88 مليار دولار)، و2.2 مليار طن من خام الحديد. ووفقاً لنشرة حقائق حول أفغانستان كانت قد  نشرتها وكالة رويترز في أغسطس ٢٠٢١؛ فإن البلاد تحوي ثرورة كربونية ضخمة تقدر بـ1.6 مليار برميل نفط، 16 ترليون قدما مكعبا من الغاز الطبيعي ، و500 مليون برميل من الغاز الطبيعي السائل.

رابعاً، موجة لجوء تذكر بتلك التي انطلقت من سوريا والعراق خلال سيطرة داعش، فإذا ما تفشى الإرهاب والعنف في البلاد، ستتعمق حركة اللجوء الحالية البطيئة إلى دول الجوار، بفعل الاستقرار النسبي وتعهد طالبان -الذي لا يزال صامداً- بعدم الانتقام وممارسة العنف ضد أي طرف.

جدير بالذكر أن ما يضعف حركة اللجوء من البلاد هو أنها دولة حبيسة مائياً فلا يوجد ممرات مائية يمكن أن تقل قوارب الراغبين بالوصول إلى أوروبا كما هو الحال بالنسبة لكثير من اللاجئين السوريين. وقد تباينت مواقف الأحزاب الأوروبية تجاه الموقف من استقبال لاجئين أفغان، فلا تزال الذاكرة غنية بهجمات إرهابية نفذها لاجئون، ناهيك عن الضغط الذي تسببه الكتلة اللاجئة على الخدمات العامة.

البحث عن شرعية دولية

لعل أول الأهداف الخارجية لطالبان تتمثل في نيل الاعتراف الدولي بحكومتها، وهو أمر شاق يترتب عليه قبولها عضواً طبيعياً في المجتمع الدولي بما يتيح تبادل التمثيل الديبلوماسي مع كابل، ورفع العقوبات والقيود التي تحول دون اندماجها في النظام النقدي الدولي.

وحتى لو نالت طالبان اعترافاً دولياً، فإنها ستظل تحت مجهر الشبهات كلما استجد جديد، فهي مطالبة ببناء الثقة مع مختلف الأطراف كجماعة سياسية وليس كمجموعة مسلحة ذات خلفية أيديولوجية. أول الاختبارات لطالبان الحاكمة هو تعاملها مع مهلة انسحاب القوات الأجنبية المحددة بـ 31 أغسطس 2021 وما إذا كانت ستستجيب للمطالبات بتمديد المهلة حتى يتسنى لمختلف الدول – خصوصاً دول حلف الناتو – إخراج رعاياها والمتعاونين معها.

ثاني هذه الاختبارات يتمثل في إدارة ملف الجماعات الإرهابية العابرة للحدود والحيلولة دون استخدام الأراضي الأفغانية منصة للإعداد والتدريب لشن هجمات إرهابية على غرار ما حدث في هجمات 11 سبتمبر. فرغم تصريحات قيادات استخبارية أمريكية بأن التنظيمات الإرهابية -في إشارة إلى القاعدة وداعش- لا تشكل حالياً خطراً على المصالح الأمريكية انطلاقاً من أفغانستان، إلا أن هذه التصريحات في الغالب موجهة لطمأنة الرأي العام وامتصاص غضبه جراء الفوضى المرافقة للانسحاب.

 ولا يعني ذلك أن ما يجري في أفغانستان يتصادم مع المصالح الحيوية للأمن القومي الأمريكي، ذلك أن استمرار "عبء أفغانستان" يحول دون تركيز واشنطن قدراتها لمواجهة الصين وروسيا، فمن المتفق عليه أن الفجوة ما بين الولايات المتحدة ومنافسيها الرئيسيين على صعيد السيادة العالمية قد تقلصت في العقد الذي انشغلت فيه الاستراتيجية الأمريكية بمحاربة الإرهاب بأدواتها الرسمية المباشرة، مما استنزف أصولها وقدراتها.

وبغض النظر عن طبيعة الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في التعامل مع الإرهاب، ما إذا كانت "قيادة من الخلف" عبر الوكلاء أو "قيادة من الأمام" عبر الانتشار الميداني لقواتها، فإن واشنطن ستظل ملتزمة بدرء الخطر الإرهابي في مهده وعمل كل ما يلزم للحيلولة دون استهداف المصالح الأمريكية.

ثالث هذه الاختبارات هو الحفاظ على وحدة البلاد بحيث لا تتنازعها المكونات الفرعية والقوى الدولية، وبالفعل بدأت الأصوات تعلو من بعض الولايات التي يقطنها الطاجيك والتركمان والتي تطالب بشكل صريح بتطبيق اللامركزية في إدارة الشؤون الداخلية العامة وعدم فرض كابل طالبان لسلطاتها في الإدارة المحلية لهذه الولايات. وهو ما يعني أن البلاد قد تكون مقبلة على شكل من الحكم الذاتي و/أو الفيدرالي على غرار كردستان العراق، وقد يتعمق الانقسام الإداري ليصل إلى انفصال سياسي تتقاسم فيه المكونات الفرعية مكونات فرعية وداعموها الدوليين الجغرافيا الأفغانية.

رابع هذه الاختبارات، حصر الأسلحة الثقيلة والمتوسطة بيد الدولة، والسيطرة على التركة الضخمة من الأسلحة الأمريكية والأفغانية المخزنة في القواعد العسكرية التي أصبحت تحت سيطرة الحركة، فمخاطر تسرب هذه الأسلحة إلى "الأيادي الخطأ" كبيرة بسبب كثرة هذه الأيادي وعدم وجود جسم بيروقراطي يتمتع بالأهلية والشرعية للسيطرة على كامل العتاد العسكري، مع كل ما يعنيه ذلك من تعقيد في مسار ضبط المشهد الأمني.

فيتعين على الحكومة الأفغانية القادمة أن تكون قادرة على احتكار حق ممارسة القوة الذي هو حق حصري سيادي للدولة، ودون ذلك ستتحول آسيا الوسطى إلى حلقة وصل للفوضى -وليس فقط للتجارة- من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى حيث تشكل الصين التهديد الأول للأمن القومي الأمريكي حسب التصنيفات الرسمية.

 

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات

التقرير كاملاً
للتحميل