تأزم الانتقال الديمقراطي في تونس

تعيش تونس حالة من الاستعصاء السياسي نتيجة خلافات حادة بين مكونات السلطة التشريعية والتنفيذية، ما عمل على خلق مسار من اللايقين وعدم الاستقرار في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية متنامية، فكيف يبدو المشهد السياسي هناك بعد مرور عشر سنوات من الثورة التي أطاحت بنظام زين العابدين بن علي؟ 

الكاتب ستراتيجيكس
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ٢٥‏/٠١‏/٢٠٢١

دخل المشهد السياسي في تونس منعطفاً حاداً جديدا مع تقديم رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، استقالته على خلفية اتهامات بشبهات فساد في منتصف يوليو 2020 بعد أقل من خمسة أشهر على تشكيلها، ليعكس ذلك مدى التنافرات بين أقطاب النخبة السياسية التونسية، وبشكل رئيسي بين الكتل البرلمانية التي شاركت غالبيتها في الائتلاف الحكومي المنهار.

يعزو بعض المراقبين للشأن التونسي تفاقم الأزمة السياسية في الفترة الأخيرة إلى حالة التشظي البرلماني، حيث أن لا أحد من الأحزاب أو الائتلافات التي دخلت البرلمان بعد انتخابات أكتوبر 2019، استطاعت أو حتى اقتربت من تحقيق الأغلبية بنسبة  (109 مقاعد من أصل 217)، وبالتالي فإن لا أحد قادر على ترشيح شخصية ما لرئاسة الحكومة، وهذا ما حصل على سبيل المثال مع الحبيب الجملي، مرشح حركة النهضة، الذي فشل في تشكيل الحكومة بعد شهرين من المشاورات العسيرة بين الكتل البرلمانية في فترة مطلع العام الماضي.

إن هذه الجزئية على درجة عالية من الأهمية إلا أنها لا تعطي الصورة الشاملة للوضع، حيث لا يمكن التعرض للأزمة السياسية دون التعرض لذكر سلوك القوى السياسية الفاعلة على الساحة المتفاعل مع السلطة التنفيذية، فعلى سبيل المثال، قامت حركة النهضة بالمشاركة بحكومة الفخفاخ دون إعارة الاهتمام لحليفها حزب "قلب تونس" الذي يشكل القوة الثانية في البرلمان، لتنضم بذلك إلى جانب "الكتلة الديمقراطية" المقربة من رئيس البلاد، قيس سعيّد، والمكونة من "التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب"، لكن ما الذي حصل بعد ذلك؟ سعت حركة النهضة لإدخال "قلب تونس" إلى الائتلاف الحكومي، ما فسره البعض على أنه ضغط على الفخفاخ من أجل زيادة نصيب الحركة من المناصب الوزارية.

المقصود من وراء هذا المثال هو القول بأن حالة التشرذم في البرلمان انتقلت إلى السلطة التنفيذية على شكل ائتلاف هش وغير منسجم ،وبالتالي غير قادر على اتخاذ القرار وفرض صيغة من التوازن مع البرلمان ما أدى في النهاية إلى انهيار الحكومة بالتوازي مع شبهات الفساد، التي طالت الفخفاخ حيث وجهت إليه تهمة تضارب مصالح من قبل الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، كونه يمتلك مساهمات في خمس شركات تجارية تعاملت مع الحكومة ؛وهذا ما يتنافى مع الدستور التونسي الذي يحظر على رئيس وأعضاء الحكومة المشاركة في أي نشاط تجاري أثناء توليهم لمهامهم.

هل اتهام الفخفاخ بالفساد هو الذي أسقط الحكومة؟ يمكن الإجابة هنا بالقول إن ذلك كان السبب النهائي أو التراكم الأخير الذي أُضيف لمجموعة من التناقضات والخلافات داخل الجسم التنفيذي التي كانت ستصل إلى نهاية مسدودة عاجلاً أم آجلاً.

حكومة المشيشي: هل يتكرر السيناريو؟

حظيت حكومة، هشام المشيشي، على ثقة البرلمان في سبتمبر 2020، في خطوة لتشكيل حكومة تكنوقراط بعيدة عن التجاذبات الحزبية، لكن هذا الشعار الذي رفعه المشيشي أدخله في خلاف مع رئيس الجمهورية حول بعض الأسماء التي طرحت في التشكيلية الوزارية، حيث عمل السعيّد على فرض عدد من الأسماء رأت فيها حركة النهضة وحلفائها في البرلمان معوقاً لعمل الحكومة، لكن على الرغم من ذلك اجتاز المشيشي امتحان الثقة بواقع 134 صوتا بتأييد من حركة النهضة وحزب قلب تونس، وائتلاف الكرامة وكتل أخرى صغيرة.

وتجدر الإشارة أنه كان من الضروري أن تحظى الحكومة الأخير بالثقة، لأن عدم حصول ذلك يخول رئيس البلاد إلى حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة يتم عقدها خلال ثلاثة أشهر كحد أقصى، بالطبع هذا يعني تواجد فراغ سياسي آخر يُفاقم من حدة الاستقطاب ويطيل أمد القضايا الاجتماعية والاقتصادية المعلقة، وهذا السيناريو قد يكون مناسبا للرئاسة على عكس مصالح الأحزاب التي تحظى بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان، حيث ستتأثر الثقة الشعبية بالعمل البرلماني في إفراز السلطة التنفيذية، وبالتالي سينشأ برلمان مفتت بشكل كبير، ما سيتيح لقصر قرطاج مجالا أوسع تجاه رسم القرار السياسي والمساهمة بشكل أكبر في عملية صنع القرار.

لكن الثقة لم تكن بدون مقابل حيث استجاب رئيس الحكومة الجديد لدعوات إعادة هيكلة الحقائب الوزارية، ليتم إجراء تعديل وزاري واسع في 16 يناير 2021، استبدل من خلاله جميع الوزراء المحسوبين على رئاسة الجمهورية وعلى رأسهم، توفيق شرف الدين، الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية، والذي استلم إدارة الحملة الانتخابية لسعيّد في وقت سابق، بالإضافة إلى وزير العدل، محمد بوستة، والذي جرى في ظل تسلمه لسلطاته إصدار أمر إيداع بالسجن بحق رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي من قبل المحكمة الابتدائية في العاصمة تونس.

يبدو أن المشيشي الذي كلفه السعيّد بتشكيل الحكومة لجأ إلى معسكر سياسي في البرلمان تقوده حركة النهضة في مواجهة مؤسسة الرئاسة التي تسعى إلى عدم تفرد قوة سياسية بإدارة المشهد العام في البلاد، الامر الذي يفسره الخصوم على أنه توجه رئاسي للهيمنة على السلطة التنفيذية، لكن وبعد كل ذلك يظهر أن حركة النهضة ومن معها من حلفاء وصلوا إلى مبتغاهم بتشكيل حكومة مستقلة ظاهريا، لكنهم مشاركين فيها بشكل غير مباشر من خلال طرح عدد من المرشحين -يتوافقون معها بشكل كامل أو جزئي- لاستلام حقائب وزارية معينة.

إن الفشل في التوافق بين الأحزاب السياسية في تونس ما هو إلا استمرار لحالة أزمة الانتقال الديمقراطي ما بعد الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس الراحل، زين العابدين بن علي، والتي تعيش البلاد الذكرى السنوية العاشرة لها، ففشل نموذج الترويكا (2011 - 2014) الذي ضم أحزاب (حركة النهضة، والمؤتمر من أجل الجمهورية، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات)  تقاسمت السلطات الثلاث (رئاسة البرلمان، رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة)، إلا أن عدم الانسجام بين مكونات الترويكا أدى إلى انهيار التجربة في ظل استفحال الأزمات الاقتصادية، التي لم تحل في عهد الرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي، على الرغم من أن فترته اتسمت بنوع من الاستقلال النسبي على المستوى السياسي، إلا أنه قد شابها نفس النموذج الحالي، أي الخلاف بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية، حيث احتمى رئيس الوزراء السابق في عهد السبسي، يوسف الشاهد، بحركة النهضة صاحبة الحضور الأوسع في البرلمان.

in-(3)صورة-داخلية-تونس-الانتقال-للسلطة.jpg

تناقضات داخل النهضة وعودة الاحتجاجات

على الرغم من استقالة العديد من قيادات حركة النهضة خلال عامي 2019 و2020 وحتى قبل ذلك، إلا أن الحركة حافظت على تماسكها التنظيمي، لكن مع وجود تيارين متعارضين داخلها، الأول  يدعو إلى الإصلاح الداخلي؛ وذلك برفض تمركز القرار بيد الرئيس، راشد الغنوشي، الذي يحق له - بحسب النظام الداخلي للحزب - حل المجلس التنفيذي وتعيين ثلث مجلس الشورى، وما يرتبط بذلك من إقصاءات لأعضاء معينين في الحزب من قنوات اتخاذ القرار، أما التيار الثاني فيتسيده الغنوشي ومن يواليه من الأعضاء الذين يرون في بقائه على رأس الحركة شكلاً من أشكال التوافق الضروري للإبقاء على الحضور السياسي لها في الشارع التونسي.

هذا التماسك تعرض إلى اختبار حقيقي مطلع العام الجاري عندما جرت انتخابات المجلس التنفيذي للحركة، حيث توافق مجلس الشورى على قائمة تضم العديد من الأسماء المعارضة لآلية إدارة الأمين العام للحركة للشؤون التنظيمية والرافضة لتجديد ولايته للمرة الثالثة، الأمر الذي  يتنافى أصلاً مع اللوائح التنظيمية للحركة، هذه الأسماء منخرطة تحت تيار يسمى "مجموعة 100" والتي هي عبارة عن مئة شخصية داخل حركة النهضة تدعو إلى الإصلاح التنظيمي وعدم التفرد بسلطة اتخاذ القرار من قبل شخص الغنوشي، الذي كان من المفترض أن يترك منصب الأمانة العامة في مايو 2020 خلال المؤتمر العام للحركة، إلا أن هذا الأخير جرى تأجيله إلى أجل غير معلوم بسبب أزمة تفشي فيروس كورونا.

لقد قام مجلس الشورى الذي ينتخب المجلس التنفيذي للحركة بإسقاط 17 اسم من القائمة التي رشحها الغنوشي لعضوية المجلس، ما يدلل على وجود توجه حقيقي ومتنامي قادر على التأثير -عبر القنوات التنظيمية- على التوجهات القيادية، لكن من الممكن أن يقوم الغنوشي بالتعديل على نتائج انتخابات المجلس التنفيذي نظراً لعدم وجود رادع قانوني يمنعه من ذلك، إلا أن خطوة كهذه من شأنها أن تفجر التناقض الداخلي في الحركة وصولاً إلى انشقاق كبير.

النقطة المهمة هنا هو أن التغيرات التي يمكن أن تقوم بها "مجموعة 100" على المشهد السياسي في تونس هي محدودة بطبيعة الحال، لعدم وجود توجه للخروج عن الخط السياسي العام للحركة، حتى وإن سيطرت المجموعة على قيادة المؤتمر للعام القادم، إلا إذا حصل انشقاق في الحركة فمن الممكن أن ينعكس أثره على التوازنات البرلمانية وبالتالي على استمرارية الحكومة الحالية.

الأزمة السياسية والأزمة الصحية اللتين تفاقمتا مع تفشي فيروس كورونا زادتا بشكل كبير من وطأة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي يعايشها المواطنون من بطالة وفقر ونقص في الخدمات، وبالتالي سيكون من المتوقع أن يتحرك الناس للاحتجاج سواء بشكل سلمي أو بغيره، وهذا ما بدأ بالحدوث منذ منتصف الشهر الجاري، حيث انطلقت مظاهرات صاخبة في العديد من المدن التونسية بما فيها العاصمة، نجم عنها اعتقال المئات من جهة وإطلاق دعوات للتهدئة وعدم الخروج عن القانون من جهة أخرى.

وكان من اللافت والمثير للريبة دعوة رئيس مجلس شورى حركة النهضة، عبد الكريم الهاروني، لشباب الحركة النزول إلى الشوارع لحماية الممتلكات العامة والخاصة من الأعمال التخريبية التي ترافقت مع التظاهرات الليلية في الفترة الأخيرة، هذه التصريح الذي أُتبع بتصريحات مماثلة من قيادات أخرى في حركة النهضة، فُهم من قبل تيارات وأحزاب سياسية أخرى داخل البرلمان وخارجه على أنها دعوة لصدام شعبي داخلي، باعتبار أن مهمة الحفاظ على المصالح الاقتصادية للمواطنين هي منوطة بالجهات الأمنية فقط وليس بالجماعات الحزبية.
 
إن الضغط الشعبي يمكن أن يغير المعادلة ولكن ذلك سيكون من باب إجراءات شكلية وفوقية ومن قبيل الدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة وتشكيل حكومة طوارئ، وذلك بسبب عدم وجود قيادة واضحة لهذا الحراك، وهذه المشكلة ذاتها التي واجهت شباب الثورة قبل عشر سنوات، ولكن هذا لا يعني أن البلاد بعيدة عن حدوث حالة من الفوضى في حال ازدياد زخم الاحتجاجات الشعبية، وهذا ما يمكن أن يكون مرجحاً مع استمرار انسداد أفق التوافق السياسي بين أطراف النخبة الحاكمة.‎

 

 

 

ستراتيجيكس

فريق تحليل السياسات