التعايش السلمي المشترك يضمن البقاء والازدهار المتبادل

بعيداً عن المشهد الجيوسياسي الحالي، يتعايش العرب واليهود جنباً إلى جنب

الكاتب حسن إسميك
  • الناشر – STRATEGIECS
  • تاريخ النشر – ١٦‏/٠١‏/٢٠٢٢

"كيف أمضى اثنا عشر يهودياً من نيويورك إجازتهم في سورية؟" أليس هذا عنواناً مثيراً؟

أثار هذا العنوان فضولي حيال المقال الذي نشرته صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" وتداولته المواقع الإخبارية العربية وانتشر على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي الشهر الماضي. لكن بعد قراءته كان لا بدّ أن أتساءل: هل سيكون هذا الخبر ملفتاً لو أنهم لم يكونوا يهوداً؟ وكيف أن سبعة عقود من الحرب بين العرب وإسرائيل كانت كافية لجعل زيارة عائلة سوريّة إلى موطن أجدادها موضوعاً ساخناً يثير الشعور بالصدمة والشك لدى شريحة كبيرة من العرب.. فقط لمجرد أن هذه الأسرة يهودية؟

من المؤكّد أن تلك الأسرة لا تعتقد ذلك، بل لقد وصف أفرادها زيارتهم بأنها كانت إجازة "طبيعية للغاية". أحدهم جو جاجاتي الذي كشف أنه زار سورية أكثر من 10 مرات خلال السنوات الأخيرة، دون حدوث أي مشكلة كان يُفترض أن تقع حسب السردية السياسية للعداء المتبادل!

يفتح هذا الخبر، وكذلك ردود الفعل حوله، الباب على مصراعيه أمام الكثير من التساؤلات حول السياسة المدمرة التي تتسبب في تسميم العلاقات الإنسانية في منطقتنا. فبعيداً عن الإطار الجيوسياسي القائم حالياً، ينسجم العرب واليهود اليوم بدرجة كبيرة مثلما كانوا يفعلون لقرون من الزمن. وهؤلاء الذين تصنفهم الدولة -سواء إسرائيل أو دولة عربية- على أنهم "أعداء" أو تحكم عليهم بأنهم "الآخر"، هم في الحقيقة ليسوا كذلك في علاقاتهم اليومية. إنهم بشر وليسوا مجرد تسميات؛ ويتعارفون كأصدقاء لا كديانات؛ هم جيران وليسوا أعداء؛ أو على الأقل.. يمكن أن يكونوا كذلك إذا أتيح لهم المجال.

إذن.. يمكن لأمر بسيط مثل الجلوس معاً على مائدة الطعام أن يكون قادراً على تجاوز الافتراضات والتحيزات التي تغذي الصراع العربي-الإسرائيلي، أقدم الصراعات في المنطقة وأكثرها تعقيداً، والصراع الوحيد القائم على الانتماء الديني فقط، سواء الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي.

يتناقض الصخب الذي أثاره المقال تناقضاً صارخاً مع مشاهداتي الشخصية الكثيرة في دولة الإمارات العربية المتحدة، لا سيما خلال موسم السياحة في دبي وأبو ظبي، حين تجد الزوار العرب من سوريين ولبنانيين وعراقيين وفلسطينيين وجزائريين وإيرانيين ويمنيين والبلدان الأخرى في المنطقة، بالإضافة إلى الإسرائيليين، يستمتعون بتناول وجباتهم في المطعم نفسه، ويكونون أحياناً معاً على طاولة واحدة، ليبرهنوا أن الصور النمطية التي روجت لها أنظمة بلادهم لعشرات السنوات غير صحيحة.

ليس للدين أيّ علاقة بهذه الأحكام المسبقة؛ إنما هي نتاج الكراهية والتحريض الذي يضخه السياسيون من أجل تحقيق غاياتهم. ففي الماضي غير البعيد، كان المسلمون والمسيحيون واليهود يمارسون شعائرهم الدينية في المنطقة بحرية مُطلقة، تربط بينهم علاقات إنسانية مشتركة، وقيم وحاجات واحدة، وصداقة وعلاقات جوار، بل ونسب ومصاهرة في بعض الأحيان.

ثمة حكاية معروفة عن يتيمين سوريين عاشا في دمشق أواخر القرن التاسع عشر: حيث كان مسلمٌ ضرير يدعى محمد، يحمل على ظهره قزماً مسيحياً مشلولاً اسمه سمير، والذي كان بدوره يحذّره من الحفر والعوائق في الطريق. عاش هذان الصديقان معاً في غرفة واحدة، وعملا في المكان نفسه، وكان اعتماد كل منهما على صاحبه هو ما ساعدهما على البقاء. لذلك لما توفي أحدهما لحق به الآخر بعد أسبوع واحد فقط، ليس بسبب احتياجه فحسب، بل وبسبب حزنه أيضاً.

وبعد مضي أكثر من قرن من الزمان، لا يزال الدمشقيون يتذكرون قصتهما كمثال يعتزون به عن التعايش السلمي. وكما حاولت الأم تيريزا أن تعلّمنا -وتعلّم زعماءنا- فإنه "إذا لم يكن لدينا سلام في العالم، فذلك لأننا نسينا أننا ننتمي إلى بعضنا بعضاً".

إن إمكانية التعايش التي وثقها التاريخ، وأبرزتها حكاية محمد وسمير، تسلط الضوء على تصرفات بعض السياسيين -العرب والإسرائيليين على حد سواء- ممن يزرعون الفُرقة باعتبارها وسيلة تكتيكية لتحقيق غايات سياسية. فقد لجأت الحكومات القومية في المنطقة بعد الاستقلال في منتصف القرن الماضي إلى توحيد الشعوب المتباينة في أمتها الجديدة. وللأسف، استجاب البعض لنصيحة ميكيافيلي بأن: "سبب قيام الوحدة هو الخوف والحرب". وعلاوة على ذلك، وجدوا أن الخوف والحرب يعملان على تشتيت انتباه المواطنين عن المشكلات التي لا يستطيع زعماؤهم - أو لا يريدون- حلها. لكن من أجل النجاح في ذلك، كانوا يحتاجون أولاً إلى إيجاد عدو مشترك.

فأوجدوا العدو، وصنعوا الخوف، وشنوا الحرب بحجة توحيد البلاد، ولتشتيت انتباه الناس أيضاً، حتى أغرقت هذه الاستراتيجية السياسية الشعوب في سنوات من الكراهية التي لا معنى لها، ومن الحروب التي لم تسفر أبداً عن استعادة أي حقّ أو أرض.. أو قيمة، بينما كان مقدراً لتلك الشعوب، لولا ذلك، أن تعيش في وئام مثلما عاش محمد وسمير. غير أن شيئاً من ذلك لم يتحقق، اللهم سوى الموت وخسارة المزيد من الحقوق والأراضي والقيم، وخسارة الفرصة في التحقيق السلام.

وللإنصاف، لم يكن الساسة الإسرائيليون أفضل حالاً في تقصيرهم عن الدفع في اتجاه السلام أو إثبات رغبتهم فيه، إذ تواصل إسرائيل احتلال الأرض وسلب حقوق الفلسطينيين، مقدمة لهم، وللجماعات التي تحارب باسمهم، ذريعةً دائمةً لرفض السلام وفقدان الإيمان بإمكانية تحقيقه يوماً ما.

وآخر مثال على ذلك هو الإخلاء القسري والتهجير والاعتداء الإسرائيلي على السكان العرب الذين يعيشون في حي الشيخ جراح منذ عام 1948، وهو حيٌّ عربي يقع شمال البلدة القديمة في القدس. ولقد كادت "العاصفة النارية الإعلامية الدولية" الناتجة عن ذلك أن تقضي على السلام الذي عُقد حديثاً بين إسرائيل وبعض الدول العربية. وعلاوة على ذلك، أدى هذا التصعيد في الأعمال العدائية من جانب إسرائيل إلى دفع دول عربية أخرى لتوخي مزيد من الحذر في الإقدام على الخطوة الأولى نحو السلام مع إسرائيل.

رغم كل ذلك، ما زالت هناك فرصة لتحقيق التعايش السلمي في المنطقة. فمع أن معظم الناس يظنون أن السلام يبدأ بتوقيع معاهدة بين الأمم المتصارعة، إلا أن الحقيقة الأعمق هي أن السلام الحقيقي لا يمكن أن يترسخ ويزدهر إلا إذا عادت الشعوب المتحاربة للتعايش مرة أخرى ضمن علاقات إنسانية طبيعية. وبمجرد قبول "العدو" على أنه جار وصديق محتمل، سينعقد السلام بصورة ضمنية قبل أن يوثقه توقيع الدول على الورق.

ثمة أربعة عوامل توفّر الأساس للسلام إذا كانت هناك إرادة صادقة لتحقيقه:

أولها هو الدين. والمفارقة أنه جرى تسيسه وتوظيفه لزيادة العداوات بين الأمم وترسيخها. فأصل الديانات هو السلام، والديانات الإبراهيمية الثلاث -الإسلام والمسيحية واليهودية- تدعو صراحة إلى التسامح والعيش المشترك. وقد أثبت التاريخ أن السلام ممكن إذا تمثلنا القيم التي تُعلّمنا إياها أدياننا وعملنا بها في سلوكنا. لذلك.. يجب علينا فصل الدين عن السياسات التي تكرّسه للتمييز والعداء بغية تحقيق مصالح السياسيين أو فئات بعينها.

العامل الثاني هو الثقافة والتبادل الثقافي، والذي وسعت اتفاقيات إبراهام للسلام بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل نطاقه وتفاعلاته. فالتبادل الثقافي يتيح لكل طرف التعرف على الآخر خارج المنظور المشوه الذي تقدمه السياسة. كما أنه يمكّننا من الوقوف على القواسم المشتركة التي تجمع بين بني البشر على صعيد إنساني واحد.

بعد تصويره فيلماً في أبو ظبي، قال الممثل الإسرائيلي ليئور راز لصحيفة وول ستريت جورنال: "في كل مرة ذهبت فيها إلى مطعم هناك، كنت أجد نفسي أتحدث مع أناس لا يتحدث معهم الإسرائيليون -أناس من سورية، من لبنان، من إيران، من السعودية- يتحدثون عن السلام، عن الفرص، عن الفن. وأعتقد الآن، وللمرة الأولى، أن الفن، وإن لم يستطع تحقيق السلام، فبإمكانه فتح الباب لحوار يمكن أن يجلب السلام يوماً ما". كما أخبر راز أيضاً صحيفة كليفلاند جويش نيوز أنه احتاج إلى حارس شخصي أثناء وجوده في الإمارات ‘ليس لأنني إسرائيلي [ولكن] لأن كل العرب من جميع البلدان كانوا يريدون التقاط الصور معي طيلة الوقت".

وبالمثل عبرّ المخرج الإسرائيلي عاموس جيتاي عن طموحه "لاستخدام لغة الأفلام" في إقامة علاقات عقلانية وسلمية بين الإسرائيليين والفلسطينيين. استكشف جيتاي في فيلمه "ليلة في حيفا"، والذي رُشّح لنيل جائزة أفضل فيلم في مهرجان البندقية السينمائي عام 2020، القصص المتشابكة لخمس نساء، إسرائيليات وفلسطينيات، خلال ليلة في أحد نوادي مدينة حيفا الساحلية. صرح جيتاي لمجلة "فاريتي": "في نهاية المطاف، المسرح هو مكان اللقاء الإبداعي حيث يمكننا التحدث بلغة الفيلم".

العامل الثالث هو الصحوة بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، تلك الثورات التي كشفت التطلعات الحقيقية للشعوب العربية، ألا وهي الأمن والرخاء والتطور. وبذلك عرّت حكومات كثيرة من أكاذيبها، وفندت ادعاءات السياسيين حول "العدو"، الأمر الذي أيقظ الشعوب، ليس فقط على الظلم والاستبداد الذي يختبئ وراء الشعارات السياسية الواهية، بل وأيضاً على إمكانية السلام بين دول المنطقة.

يجب علينا ألا نحكم على الأجيال القادمة -من العرب والإسرائيليين- بتوارث هذا الخوف وهذه الحروب. ورغم ما يؤكده البعض من أن استمرار الحرب ورفض السلام مع إسرائيل هو رغبة الشعوب العربية وليس رغبة حكامها، إلا أن العكس هو الصحيح. لكن الشعوب العربية عاجزة عن التعبير عن رغبتها في السلام مع إسرائيل دون أن تُتّهم بالخيانة أو العمالة أو الانهزام، خاصة في ظل أنظمة تمارس سياسة القمع وفرض الصمت.

العامل الرابع هو الاقتصاد والازدهار المشترك. فالمملكة العربية السعودية مثلاً تقود جهوداً كبرى لتحقيق طفرة تنموية إقليمية من خلال رؤية 2030، وهي مشروع يتطلب نجاحه الاستقرار وتبادل المصالح في كلّ بُلدان المنطقة. ولذلك فإنني أدعو الأمير المتطلع للمستقبل بكل شجاعة محمد بن سلمان، والمملكة العربية السعودية بطبيعة الحال، للانضمام إلى اتفاقيات إبراهام على خطى ولي عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد. وكما أشار إريك آر ماندل في مقاله الممتاز في جيروزاليم بوست، فإن "أفضل طريقة لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط ... هي اتباع نهج دبلوماسي متسارع تجاه المملكة العربية السعودية وإندونيسيا والدول الإسلامية الأخرى، عربية كانت أم لا، لحملهم على الانضمام إلى اتفاقيات إبراهام".

وفي السياق ذاته، من المؤكد أن الاستقرار الإقليمي هو أمر حيوي لتعافي سوريا وإعادة إعمارها. لقد سبق لسوريا أن قامت بمحاولات جادة لتحقيق السلام مع جيرانها، كما أن أصحاب القرار في دمشق يعرفون أن الوقت قد حان لاستئناف هذا المسار. إضافة إلى ذلك، يضغط المجتمع الدولي حاليًا على النظام الإيراني، ما يُضعف نفوذه السلبي في المنطقة، ويساعد على استعادة الاستقرار في لبنان وعودته إلى الحظيرة العربية، وهو ما يجب القيام به في أسرع وقت ممكن.

أخيرا.. أدعو كل الساسة، عرباً وإسرائيليين، إلى الكفّ عن صناعة العدو لخدمة سلطتهم واستمرارها، فالدول لا تحتاج إلى عدو لكي تبقى، بل التعايش السلمي هو ما يضمن لها البقاء والنمو والازدهار. كما أدعو الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى إلى زيادة دعمهم للتطور الاقتصادي والديمقراطي في الشرق الأوسط، في وقتٍ يتزايد فيه التدخل الروسي والصيني في المنطقة. ومما لا شك فيه أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب واجه انتقادات شديدة في ذلك الوقت، لكنه أظهر مع ذلك قيادة حقيقية أدت إلى اتفاقيات أبراهام.

ختاماً، أدعو كل من يعتنق المبادئ والقيم الإنسانية، ويحترمها قولاً وفعلاً، أن يترجم ذلك بالمشاركة في إعادة إعمار مهد الرسل والأنبياء!

 

 

حسن إسميك

رئيس مجلس أمناء STRATEGIECS