جدال الثقافات والهويات المُرافق لمونديال 2022

مقال رأي | يتناول المقال الجدل الثقافي والهوياتي الذي رافق بطولة كأس العالم المقامة في دولة قطر، ويسلط الضوء على أبرز الحالات التي حدثت أثناء المونديال والتي أبرزت هذه الأزمة.

الكاتب بلال العضايلة
  • تاريخ النشر – ١٨‏/١٢‏/٢٠٢٢

رافق استضافة دولة قطر لكأس العالم، حواراً حول الثقافات والحضارات والهويات، بين محتفٍ بعولمة كرة القدم كتجسيد للوحدة البشرية، وبين متمسك بهويته كتعبير عن الفوقية والتعالي تجاه "الآخر" المخالف لهذه الهوية حتى في المحافل الرياضية.

وما بين تعددية الحضارات وتنوعها، وتغليب الهويات الفرعية، وما بين تلاقي الحضارات وصدامها، يحاول الاتحاد الدولي لكرة القدم "FIFA" أن تكون اللعبة منصة للتلاقي وسط الصراع، لا بالقول فحسب بل بالفعل أيضاً.

ورغم أن روح الرياضة وقوانين الفيفا تمنع إقحام السياسة بالرياضة وتعاقب على مختلف أشكال التمييز، إلا أن مونديال قطر شهد عدة حالات ومواقف عبّرت عن صعوبة تحقيق "مثالية" احترام الثقافات والخصوصيات، وتقبل الآخر، وعدم فرض قالب معين بحجة الحريات والحق في ممارسة الحريات الفردية بمعزل عن قوانين وتقاليد البيئة العربية الشرق أوسطية.

أولى الحالات التي أشارت إلى "أزمة الهويات" أثناء المونديال، ما رافق قرار قطر والفيفا بحظر الرموز المتعاطفة مع المثلية الجنسية، سواء أكانت بوضع قائد الفريق علامة مزينة بقوس القزح على ذراعه، أو بإدخال الجماهير لافتات قوس القزح إلى الملعب، إلى غير ذلك من المظاهر.

وقد أدى الحظر إلى عاصفة أوروبية من الانتقادات اضطر معها الفيفا إلى التدخل وشرح مبررات القرار والضغط على المنتخبات الأوروبية التي أراد قادتها ارتداء شارة المثلية للعدول عن قرارهم كي لا تُفسد المنافسات الكروية بقضية لا داعي لمناقشة تداعياتها داخل هذا المقال.

ثاني مظاهر أزمة الهويات تتمثل في حفل الافتتاح، فصحيح أن المنظمون نجحوا في بث رسالة بالوحدة العالمية الحضارية الثقافية عبر عدة لوحات بصرية موسيقية، إلا أن قائمة كبار القادة ممن حضروا الافتتاح لم تشمل أي شخصية رئاسية أو ملكية خارج إطار المنطقة العربية والإفريقية، باستثناء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الذي كانت بلاده واحدة من الحضارات التاريخية الإسلامية.

ثالثاً: استحضرت لافتة صغيرة في غرفة تبديل ملابس المنتخب الصربي الحربَ الأهلية مع كوسوفو أواخر التسعينات، حيث رُسم على اللافتة التي التُقطت قبل مباراة البرازيل علم صربيا فوق خريطة كوسوفو مع عبارة "لن يكون هناك استسلام".

وأدى ذلك إلى احتجاج رسمي من كوسوفو وشروع الفيفا بإجراءات تأديبية لمخالفة صربيا قانون الانضباط، تحديداً المواد المتعلقة بـ"استغلال حدث رياضي للإعلان عن أمور لا تتعلق بالرياضة".

رابعاً: لم تغب صراعات المنطقة عن المونديال، فقد واجه صحفيو إسرائيل صعوبات عدة في إتمام تغطياتهم الإعلامية دون مقاطعة بهتافات متعاطفة مع فلسطين، أو منددة بالسياسات الإسرائيلية.

ولعل تجمع - العفوي ربما - مشجعين عرب وإيرانيين ومحاصرة فريق بث تلفزيوني إسرائيلي بالهتافات المناصرة لفلسطين تحمل دلالات واضحة حول اصطفافات الهويات في المنطقة.

خامساً: توافد إلى قطر قبيل المونديال عدة شخصيات دينية إسلامية وتردد في وسائل التواصل الاجتماعي أن حضورهم بهدف إقامة فعاليات تعريفية بالإسلام على هامش مشاركة العدد الضخم من الحضور في المناسبة الكروية، وحمل هذا الخبر إشادة واحتفاء على صفحات منصات التواصل الاجتماعي.

ولا يقصد هذا المقال التعاطف أو تبني موقف تجاه أي من الظواهر الهوياتية أعلاه، وإنما التدليل على ما رافق الحدث الرياضي من جدل هوياتي وثقافي يفوق سابقاته حتى ما صاحب مونديال 2010 في جنوب أفريقيا التي تحررت من نظام الابرتهايد المدعوم من قوى خارجية أوائل التسعينات من القرن العشرين، فلم يترافق ذاك المونديال مع ذات الجدال رغم أنه جرى في دولة بالكاد خرجت من نظام للفصل العنصري. ويمكن إرجاع جدال 2022 للأسباب التالية:

1- صعود جيل "Z": يعد مواليد 1997-2012 حالة خاصة في الدراسات المجتمعية ويطلق عليهم جيل "Z' كأول جيل نشأ على قرب لصيق "ZOOM" من الانترنت ولأنهم جاءوا بعد الجيل السابق "Y".

يعبّر هذا الجيل عن حالة متقدمة من التأثر بالعولمة والانكفاء الذاتي المنعزل عن الأسرة والمجتمع، وهو ما ينعكس على كون الفرد المنتمي للجيل "Z" يعيش في عزلته الخاصة التي لا يكترث فيها سوى بأهوائه وميوله وأفكاره.

فهو جيل نشأ في "بيئة مثالية" لنمو تيارات ومذاهب هوياتية جديدة، وأصبحوا يشكّلون نسبة تصويتية مهمة - ممن بلغوا السن القانوني للتصويت- تضغط على القرار في الأنظمة الديمقراطية، وهم أيضاً جيل حيوي ويمتلكون طاقات حركية رياضية، ولذلك جاء جدال الهويات الفردية الصاعدة، كالمثلية، صاخباً في مونديال قطر.

2- التسييس: نددت تصريحات سياسية أوروبية ببعض المظاهر المرتبطة بقطر، كمزاعم انتهاك حقوق العمال، وتقييد الحريات الشخصية في المونديال، وأخذت هذه التصريحات منحنى تصاعدي في الفترة التي سبقت بداية الفعاليات الكروية دون أن يكون هنالك ما يدعو لحملة انتقادات قبل اختبار قُدرة قطر الفعلية على تنظيم وإعداد المونديال.

وقد تكون بعض العواصم الأوروبية أرادت "معاقبة" الدوحة والضغط عليها بسبب عدم تلبية بعض الطلبات المتعلقة بإمداد الغاز إلى أوروبا، وسط شكوك بأن الدوحة لا تريد استفزاز موسكو عبر عقد اتفاقيات جديدة لتوريد الغاز إلى أوروبا.

فمثلاً، لم تنجح الحكومة الألمانية في التوصل إلى اتفاقيات ذات جدوى لاستيراد الغاز من قطر، وكان لافتاً حدة النقد الألماني لقطر في المونديال رغم أنها ليست دولة "ليبرالية" بالمعنى التاريخي، ومن شواهد هذا النقد السلسلة الوثائقية "قطر: كأس العالم للعار" التي بثتها القناة الألمانية الأولى، وتصريح وزيرة الداخلية الألمانية، نانسي فايزر، المشكك بأهلية قطر لاستضافة المونديال وقولها "من الأفضل عدم منح شرف تنظيم البطولات لمثل هكذا دول".

وبلغ الصدام الهوياتي المسيّس أوجه عندما أخذ لاعبو المنتخب الألماني صورة افتتاح مباراتهم مع ألمانيا، حيث احتجوا على منع الفيفا وضع شارة دعم المثلية بوضع أياديهم على أفواههم كناية عن "تكميم الأفواه". كما ارتادت وزيرة الداخلية الألمانية التي شاهدت المباراة في المنصة الرسمية الشارة المحظورة في رسالة تحدي.

ستراتيجيكس-جدل-هيات-المونديال-in-1.jpg

3- صعود القوميات والشعبويات: ينظر المؤرخين السياسيين إلى هذه المرحلة على أنها واحدة من فترات سيادة التطرف المحلي في العالم، إذ أصبحت الهويات الفرعية إحدى المركبات الرئيسية لتحليل البيئة السياسية المحلية، ولم تعد مناقشتها ترفاً نظرياً مثلما كان الحال قبل انهيار النظام الدولي ثنائي القطب وبروز العولمة التي سرّعت وعقّدت من التفاعلات البشرية.

ومنذ انهيار الاتحاد السوفييتي، لا تزال أطروحة "صراع الحضارات" للمفكر الأمريكي، صامويل هانتنجتون، صالحة إلى حد ما لفهم بعض ملامح التغيرات البنيوية المجتمعية، فقد استشرف الكتاب الصادر عام 1996 سيطرة النزعات العرقية والثقافية على مستوى السياسات المحلية، وسيطرة النزعات الحضارية العابرة للدول على مستوى السياسات العالمية.

فالجماهير أصبحت أحياناً تأتي مشحونةً بخطابات هوياتية متطرفة، لتتجسد "غوغائية" الحشود عندما يردد الآلاف صيحات عنصرية تحمل تحريض وكراهية خلف بضعة أشخاص بادروا في إطلاقها، رغم أن أغلبية "الغوغاء" قد يرفضون الانزلاق إلى هذا المستوى بصورة فردية شخصية، ولكن حماس الجمهور واندفاعه له مفعوله.

فمن الملاحظ أن الجماهير أصبحت تأتي إلى الملعب بهوية فرعية في مباريات الدوريات المحلية، وبهوية قومية في البطولات القارية، وبهوية حضارية (عربي أو مسلم أو لاتيني وغيرها من الهويات الواسعة) في كأس العالم.

وكأس العالم حدث كروي يجمع بين كل تلك الهويات، وهذه ليست المرة الأولى التي تتلاقى فيها عدة مستويات من الهويات في مدرجات الملاعب، ولكن أخذت زخماً بسبب نمو الهويات الفردانية الشخصية، كما جاء في بند الجيل "Z"، وتباين هذه الهويات الصاعدة مع هوية المضيف التي لا تزال محافظة نسبياً ولا تحبّذ ما يخالفها، حتى وإن كانت تتقبلها على مضض.

4- الاستقطاب الدولي: تجري المسابقات الكروية في مرحلة حرجة تشهد اصطفافات دولية بعد أزمتين دوليتين غير مسبوقتين: أزمة كوفيد-19 والأزمة الأوكرانية. وقد تنامى الحس الهوياتي حول العالم إثر التوترات الدولية، وأحدثت أزمات معيشية اقتصادية ارتدت سلباً على الاستقرار السياسي والتنافس الحزبي بين مختلف الأحزاب، وهو ما يتصل مع البند السابق.

ولكن هذه الاصطفافات السياسية الدولية لها طابع ثقافي وهوياتي بامتياز، كالتحالف الغربي الليبرالي ضد ما يُطلق عليه المحور الشرقي الاستبدادي في إشارة إلى الصين وروسيا، حيث يتبنى كل طرف سياسات ثقافية متمايزة ويسعى إلى الترويج لها في عمق أراضي الطرف الآخر، لأن قبول النسق الثقافي يُتلى بالتأييد السياسي.

فمثلاً، كثيراً ما خاطب بوتين المحافظين في الغرب ليس عبر السياسة وإنما عبر نقد "المظاهر الهدامة للأسرة"، كما جاء في خطابه الشهير لضم المقاطعات الأوكرانية الأربعة عندما قال:

"في الواقع، هم يبصقون على الحق الطبيعي لمليارات البشر، في الحرية والعدالة، وحقهم في تقرير مستقبلهم بأنفسهم. الآن انتقلوا تماماً إلى الإنكار الجذري للمعايير الأخلاقية والدين والأسرة، ……. أكرر أن ديكتاتورية النخب الغربية موجهة ضد كل المجتمعات، بما في ذلك شعوب الدول الغربية نفسها. إنه تحدٍ يواجه الجميع، ومثل هذا الإنكار الكامل للإنسان، والإطاحة بالإيمان والقيم التقليدية، وقمع الحرية، يكتسب سمات (الدين المعكوس) شيطانية صريحة".

ستراتيجيكس-جدل-هيات-المونديال-in-2.jpg

وتزامناً مع كأس العالم اعتمد مجلس الدوما الروسي مشروع قانون يحظر الترويج للمثلية وتغيير الجنس، وكذلك يحظر المشروع تشويه العلاقات الجنسية التقليدية، وقد سارع الاتحاد الأوروبي إلى إصدار بيان مندد عبر دائرة العمل الخارجي الأوروبي تضامن فيه مع "المواطنين الروس المحرومين من حقوقهم الإنسانية" معتبراً مشروع القانون "يعزز قمع الخطاب النقدي والبديل".

كل ذلك يجد ارتداداته في الجماهير المتأثرة بفعل السياسة في المدرجات ومنصات التواصل الاجتماعي التي تضج في "جدال الهويات".

5- التوظيف القطري: تتمتع الدولة القطرية بقدرات إعلامية نافذة عربياً ودولياً، وسُخّرت هذه القدرات لخدمة هدفها في إعادة إنتاج صورتها كدولة إسلامية معتدلة حداثية بعد سنوات من دعم حركات الإسلام السياسي.

وإن كان اشتباك القوى الناعمة لا يتم في المستوى الفيزيائي المادي، إلا أنه قد يحمل تداعيات وتأثيرات تتجاوز ما يتم عبر القوى الصلبة، وتُدرك قطر جيداً متى وكيف تفعّل القوة الناعمة وتراكم من رصيدها في الرأي العام العربي والدولي.

وواجه التنظيم القطري اتهامات تتصل بمحاولة فرض نسق ثقافي على المونديال و"أسلمة" كأس العالم، أما الصدام الخفي فقد يتم بترسيخ قطر نفسها كعاصمة إسلامية حداثية تكون أيقونة تمزج بين الأصولية والحريات، مبتعدةً عن النموذج المهيمن على سياسات دول المنطقة، ومقتربةً من رغبات وتوجهات شعوب دول المنطقة العربية.

ونجح الإعلام القطري في تحويل المونديال إلى استفتاء شعبي على صورة قطر ومكانتها، وسط حالة من المبالغة وتحميل المونديال أكثر مما يحتمل كـ "نصر" يُحتفى به.

الخصوصية العربية الهوياتية

قد يرجع الاحتفاء العربي بمونديال قطر إلى الإحباط السياسي والضعف الحضاري اللذين يسيطران على السيكولوجية الجمعية في المنطقة العربية، وقد ترتقي هذه الحالة إلى مستويات مقلقة مسببة شعوراً بالتخلف عن مواكبة "الآخر" المتقدم في مختلف أوجه البعد المادي للحضارة.

وبسبب التصور العربي الواسع النطاق بالتقهقر الحضاري، يتم عادةً استحضار صورة النصر في غير موضعها، كالافتخار بلاعب عربي محترف في صفوف أحد الأندية الأوروبية الكبيرة، واستضافة قطر للمونديال ولكن العربي يشعر أنه جزء من "الحضارة المستضيفة"، رغبةً في التأكيد الحضاري وإثبات المساواة مع الآخر أو حتى التفوق عليه.

ولربما تحمل كلمة "Race" دلالات تختصر كل ما جاء في المقال -وكل جدال الهويات والثقافات أثناء الحدث الكروي- ذلك أن هذه المفردة تحمل أكثر من معنى فهي تعني السباق، وتعني العرق أيضاً، وهي دلالة لغوية لافتة لأن المنافسات الرياضية وغيرها تتحول إلى سباق بين أعراق، وكأن هذا التدافع لإثبات الأفضلية والتفوق هو ما يدفع البشرية بأعراقها للتقدم في سباق سيكولوجي بدأ منذ بداية التمايز البشري.

ولا يريد هذا المقال بث رواية سلبية حول تداخل الثقافات والهويات في الرياضات، فمن شبه المؤكد إيجابية الدور الذي تؤديه الفعاليات الرياضية في جَسْر الهوة بين الشعوب والحضارات، وتقديم أيقونة على حالة المواطنة والاندماج داخل الدولة، ففرنسا التي حقق منتخبها كأس العالم 2018 شاركت بتشكيلة تضم 12 لاعب من أصول أفريقية مما مجموعه 23 لاعب تم استدعائهم. 

ومشاهد مثل الفريق المتعدد المتجانس، والتشجيع المنضبط، وتقبل الفريق "الآخر" المتفوق؛ كل ذلك يسهم في تبديد السلوك النفسي والهوياتي الذي أصاب الإنسانية برمتها، وتحرص قطر على أن يكون المونديال العربي ذكرى للتلاقي البشري والتفاعل الايجابي بين مختلف الأمم، رغم الصعاب التي تم إيجازها في هذا المقال.

بلال العضايلة

مساعد باحث مهتم في قضايا السلم الدولي وفض النزاعات